الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***
بسم الله الرحمن الرحيم واليمين في اللغة مأخوذة من اليمين الذي هو العضو؛ لأنهم كانوا إذا حلفوا وضع أحدهم يمينه في يمين صاحبه، فسمي الحلف يمينا لذلك، وقيل اليمين القوة، وسمي العضو يمينا لوفور قوته على اليسار، ومنه قوله تعالى: (لأخذنا منه باليمين) (الحاقة: 45) أي بالقوة، ولما كان الحلف يقوي الخبر عن الوجود، أو العدم سمي يمينا، فعلى هذا التفسير يكون التزام الطلاق، أو العتاق، وغيرهما على تقدير المخالفة يمينا بخلاف التفسير الأول: وفي (الجواهر): قال القاضي: أبو بكر: هو ربط العقد بالامتناع، أو الترك، أو بالإقدام على فعل بمعنى معظم حقيقة، أو اعتقادا، ويرد عليه أسئلة أحدها: أن جميع ما ذكره يتصور بغير لفظ، والعرب لا تسمي الساكت حالفا، وثانيها: أن اليمين قد تكون على خلاف المعتقد كما في الغموس، وثالثها: أن اليمين قد تكون على فعل الغير، أو تركه، فلا يكون فيها إقدام، ولا إحجام، والحق أن يقال: هو جملة خبرية وضعا إنشائية معنى متعلقة بمعنى معظم عند المتكلم مؤكدة بجملة أخرى من غير جنسها، فقولنا: خبرية؛ لأن ذلك صيغتها، وقولنا: إنشائية؛ لأنها لا تحمل التصديق، والتكذيب، فهي نحو بعت، واشتريت، وأنت حر، وأنت طالق، وقولنا: من غير جنسها احترازا من تكرير القسم من غير ذكر المحلوف عليه، فإنه لا يسمى حالفا إلا إذا ذكر المحلوف عليه، وبقية القيود ظاهرة، وقد خصص الشرع هذا المعنى في بعض موارده، وهو أن يكون المعظم ذات الله، أو صفاته العلى كما صنع في الصلاة، والصوم، وغيرهما، وفي الكتاب ستة أبواب. وفي (المقدمات): هو مباح في الحلف بالله تعالى، وبأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، ومحرم، وهو الحلف باللاة، والعزى، وما يعبد من دون الله تعالى؛ لأن الحلف تعظيم، وتعظيم هذه الأشياء كفر، ومكروه، وهو الحلف بما عدا ذلك، وقاله (ش) لما في مسلم قال عليه السلام: (إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا، فليحلف بالله، أو ليصمت) وهو ينقسم إلى ما يلزم كالعتاق، والطلاق، وإلى ما لا يلزم كالتزام شرب الخمر، ونحوه، والحلف بالرسول عليه السلام، أو الكعبة، أو المشي إلى السوق. قال اللخمي: الحلف بالمخلوقات كالنبي عليه السلام، والكعبة ممنوع، فمن فعل، فليستغفر الله تعالى، واختلف في جواز الحلف بصفات الله تعالى كالقدرة، فالمشهور الجواز، ولزوم الكفارة، وقاله الأئمة، وروي عن مالك الكراهة في: لعمر الله، وأمانة الله، وأن الحلف بالقرآن، والمصحف ليس بيمين، ولا كفارة فيه، وفي الجواهر: لا يجوز الحلف بصفاته الفعلية كالرزق، والخلق، ولا تجب الكفارة، وهو موافق للخمي دون المقدمات، ويدل على جواز الحلف بالصفات القديمة ما في البخاري (أن أيوب عليه السلام قال: بلى، وعزتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك). سؤال: قال عليه السلام في حديث الأعرابي السائل عما يجب عليه: (أفلح وأبيه إن صدق) فقد حلف عليه السلام بمخلوق، وجوابه: إما منع الصحة في هذه اللفظة، فإنها ليست في الموطأ، أو بأنه منسوخ بالحديث المتقدم. ذكره صاحب (الاستذكار)، وإما بأن هذا خرج مخرج توطئة الكلام لا الحلف نحو قولهم: قاتله الله ما أكرمه، وقوله عليه السلام لعائشة: (تربت يداك، ومن أين يكون الشبه) خرج عن الدعاء إلى توطئة الكلام. (قاعدة): توحيد الله تعالى بالتعظيم ثلاثة أقسام: واجب إجماعا كتوحيده بالعبادة، والخلق، والإرزاق، فيجب على كل أحد أن لا يشرك معه تعالى غيره في ذلك، وما ليس بواجب إجماعا كتوحيده بالوجود، والعلم، ونحوهما، فيجوز أن يوصف غيره بذلك إجماعا، ومختلف فيه كالحلف بالله تعالى، فإنه تعظيم له، واختلف العلماء هل يجوز أن يشرك معه غيره فيه أم لا، وإذا قلنا بالمنع، فهل يمتنع أن يقسم على الله تعالى ببعض مخلوقاته، فإن القسم بها تعظيم لها نحو قولنا: بحق محمد اغفر لنا، ونحوه، وقد حصل فيه توقف عند بعض العلماء، ورجح عنده التسوية، ولا يشكل على القول بالمنع حلفه تعالى بالتين، والزيتون، والسماء، والشمس، وغير ذلك؛ لأن من العلماء من قال: تقديره أقسم بها لينبه عباده على عظمتها عنده، فيعظمونها، ولا يلزم من الحجر علينا الحجر عليه، بل هو المالك على الإطلاق يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. وفيه فصلان: أما الصريح الذي يوجب الكفارة بنطقه من غير احتياج إلى نية، ففي الكتاب الحلف بجميع أسماء الله تعالى، وصفاته يوجب الكفارة نحو العزيز اللطيف، أو عزة الله، وأمانته، ولعمر الله، وعلي عهد الله، أو ذمته، أو كفالته، أو ميثاقه، وقاله (ح)، وابن حنبل، وقال (ش): العهد، والكفالة، والميثاق، وقولنا: وحق الله، والرحمن الرحيم، والعليم، والجبار كنايات لترددها بين القديم، والمحدث. إن نوى القديم وجبت الكفارة، وإلا فلا. قال اللخمي: العهد أربعة تلزم الكفارة في وجه، وتسقط في اثنين، ومختلف في الرابع، فالأول: علي عهد الله، والاثنان لك علي عهد الله، وأعطيك عهد الله، والرابع: أعاهد الله اعتبره ابن حبيب، وأسقطه ابن شعبان قال: وهو أحسن، وقال ابن عبد الحكم: لاها الله يمين، نحو بالله، وفي (البيان) إذا قال: يعلم الله لا فعلت استحب له مالك الكفارة احتياطا تنزيلا له منزلة أيم الله تعالى، وقال سحنون: إن أراد الحلف وجبت الكفارة، وإلا فلا؛ لأن حروف القسم قد تحذف، وإذا حلف بالقرآن، فرواية ابن القاسم الكفارة حملا له على القديم، وقاله (ش)، وابن حنبل، وروي عن مالك عدم الكفارة حملا له على الحروف؛ لأنه المتبادر في العرف إلى الذهن، والفهم، وفي (الجواهر): أيم الله يمين، وفي (الكتاب): وعزة الله: لمالك في إيجابه الكفارة: روايتان. (فوائد): أمانة الله تعالى تكليفه لقوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض) (الأحزاب: 72) الآية إلى قوله: (وحملها الإنسان) وتكليفه: كلامه القديم، فهي صفته تعالى، وعمر الله تعالى: بقاؤه، وهو استمرار وجوده مع الأزمان، ووجوده ذاته، وعهد الله تعالى: إلزامه لقوله تعالى: (وأوفوا بعهدي) (البقرة: 40) أي تكليفي، فهو صفة ذاته تعالى، وذمته: إلزامه، فيرجع إلى خبره، وخبره: كلامه، وكذلك كفالته، والميثاق هو العهد المؤكد بالحلف، فيرجع إلى كلامه تعالى، وأيمن الله تعالى: قال سيبويه: هو من اليمن، والبركة، ولذلك قال (ش): هو كناية لتردده بين المحدث من تنمية الأخلاق، والأرزاق، وبين القديم الذي هو جلال الله، وعظمته تعالى، ومنه قوله تبارك وتعالى: (تبارك الذي بيده الملك) (الملك: 1) أي عظم شأنه، وكبر علاءه، وقال الفراء هو جمع يمين، فيكون الكلام فيه كالكلام في أيمن المسلمين من جهة أنه هو صريح، أو كناية، ويقال: أيمن الله، وأيم الله، ومن الله، وم الله. فرع: في (الجواهر): إذا قال: الأيمان تلزمني قال: الأستاذ أبو بكر: ليس لمالك، ولا لأصحابه فيها نص، وإنما تكلم فيها المتأخرون، فأجمعوا على لزوم الطلاق في جميع النساء، والعتاق في جميع العبيد، فإن لم يكن له عبيد فعليه عتق رقبة، والمشي إلى مكة في الحج، والتصدق بجميع أمواله، وصيام شهرين متتابعين، وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: وأكثر الأندلسيين يلزمه الطلاق الثلاث، وقال أبو عمران، والعراقيون: واحدة، واختار الأستاذ: أن لا تلزمه إلا ثلاث كفارات حملا لليمين على اليمين بالله تعالى الذي هو المشروع قال: إلا أن ينوي غير ذلك، أو يكون عرفا، وحملا للصيغة على أقل الجمع قال: ولا فرق بين الأيمان تلزمني، أو لازمة لي، أو جميع الأيمان، أو الأيمان كلها تلزمني، وقال أبو الطاهر: لم يختلف المذهب أن جميع الأيمان تلزمه عند عدم النية، ويلزمه التصدق بثلث ماله، وكفارة يمين، ومن اعتاد الحلف بصوم سنة لزمه، وهكذا يجري في حكم أيمان البيعة، وهي أيمان رتبها الحجاج فيها اليمين بالله تعالى، والطلاق، والعتاق، والحج، وصدقة المال يحلف بها الناس عند البيعة. قال صاحب (التخليص): واختلف هل الطلقة بائنة، أو رجعية قال: ومنشأ الخلاف اختلاف الرواية عن مالك في أشد ما أخذ أحد على أحد هل تلزمه طلقة، أو ثلاث. قواعد: اليمين حقيقته لغة: الحلف على ما تقدم من الخلاف، وإطلاقه على الطلاق، والعتاق، والنذر مجاز؛ لأنه ليس بحلف، فلو حلف بالطلاق، أو العتاق لا يلزمه شيء؛ لأنه حلف محدث، والعلاقة في هذا المجاز أن الحالف ملتزم لحكم على تقدير، وهو الكفارة على تقدير الحنث، والمعلق من الطلاق، وغيره قياسا على تقدير وجوب الشرط، ثم هذا المجاز منه خفي لم يترجح على الحقيقة، ولا سواها، نحو لله علي هدي، أو بناء مسجد، أو الغزو، ومنه راجح على الحقيقة، أو مساو، وهو ما ذكره المتأخرون، ويدل على الشهرة قديما، وحديثا قوله عليه السلام: (الطلاق والعتاق يمين الفساق) فسماهما أيمانا، ومن قواعد المذهب: استعمال اللفظ المشترك في جميع مسمياته، وغير المشترك في مجازاته المستوية، ومجازه، وحقيقته، فلذلك حمل المتأخرون اللفظ على ما ذكروه دون غيره من التعاليق، وأما إذا قلنا: اليمين أصله من القوة؛ لأنه يقوي المخبر عنه، فالتعاليق أيضا مقويات للإقدام، والإحجام، فيكون اللفظ متواطئا في الجميع، وقد دخلت عليه أداة العموم، فيعم الجميع إلا ما خصه الدليل بالإجماع، وقد تقدم تقريره أول الكتاب. وقاعدة: (ش): حمل اللفظ على حقائقه، ومجازاته، ومجازه، وحقيقته، وقد خالف في هذه القاعدة أصله، فقال: إن نوى شيئا لزمه، وإلا فلا محتجا بأن هذا كناية، فيتبع النية، والصريح هو النطق بالاسم المعظم، ولم ينطق به، وجوابه: أن كل ما يعتقد صريحا، فلفظ اليمين صادق عليه حقيقة في اللغة، فلفظ الأيمان تتناول الصريح بالوضع، والكناية لا تتناول بالوضع، بل تصلح للتناول، فليست بكناية، فإن قيل: لفظ اليمين يتناول قولنا: والله من جهة عموم كونه حلفا لا من جهة خصوص قولنا: والله، بل لفظ اليمين صادق عليه، وعلى قولنا: والكعبة، وحياتي، ولعمري، والدال على الأعم غير الدال على الأخص، وغير مستلزم له، فيكون كناية قلنا: القائل: أيمان المسلمين، والأيمان نطق بصيغة العموم الشاملة لكل ما يصدق عليه يمين؛ لأن اللام للعموم، واسم الجنس إذا أضيف عم، فكانت الصيغة متناولة لكل يمين مخصوصة، فيكون صريحا أجمعنا على سقوط ما لم يشرع، وما لم يشتهر عرفا، بقينا في صفة العموم على مقتضى الأصل. قال ابن يونس: إذا قال: أشد ما أخذ أحد على أحد، ولا نية له، وحنث طلق نساءه، وعتق عبيده، ومشى إلى البيت، وتصدق بثلث ماله. فائدة: قال صاحب كتاب (الخصال): الموجب للكفارة سبع وعشرون صيغة الله، وبالله، وتالله، ولعمر الله، ووالله، ويعلم الله، وحق الله، وأيم الله، وباسم الله، وبعزة الله، وبكبرياء الله، وقدرة الله، وعظمة الله، وأمانة الله، وعهد الله، وذمة الله، وكفالة الله، وميثاق الله، وأشهد بالله، وأعزم بالله، وأحلف بالله، وعلي نذر لله، وبالقرآن، وبالمصحف، وبما أنزل الله، وبالتوراة، وبالإنجيل، والكناية ما هو متردد بين الموجب، وغيره على السواء، ففي الكتاب: إذا قال: أشهد، أو أقسم، أو أحلف، أو أعز إن أراد بالله، فهو يمين، وإلا فلا شيء عليه. قال ابن يونس: قال أصحابنا: معاذ الله ليست يمينا إلا أن يريد اليمين وقيل: معاذ الله، وحاشا لله ليست يمينا مطلقا؛ لأن المعاذ من العوذ، ومحاشاة الله من التبرئة إليه، فهما فعلان محدثان. ((تمهيد):) لما تقدم أن أسماء الله تعالى كلها يجوز الحلف بها، وتوجب الكفارة على تفصيل يأتي، إما لدلالتها كلها على الذات من حيث هي هي، وهو قولنا: والله؛ لأنه على الصحيح موضوع للذات من حيث هي هي علما عليها لجريان النعوت عليه، فنقول الله الرحمن الرحيم، وقيل: للذات مع جملة الصفات، وإما لدلالتها على الذات مع مفهوم زائد وجودي قائم بذاته تعالى نحو قولنا: عليم، أو وجودي منفصل عن الذات نحو خالق، أو عدمي نحو قدوس، ثم هو أربعة أقسام: ما ورد السمع به، ولا يوهم نقصاً نحو العليم، فيجوز إطلاقه إجماعا، وما لم يرد السمع به، وهو موهم، فيمتنع إطلاقه إجماعا نحو متواضع، وما ورد السمع، وهو موهم، فيقتصر به على محله نحو ماكر، وما لم يرد السمع به، وهو غير موهم، فلا يجوز إطلاقه عند الشيخ أبي الحسن، ويجوز عند القاضي، وقيل: بالوقف نحو السيد. قال أبو الطاهر: فكل ما جاز إطلاقه جاز الحلف به، وأوجب الكفارة، وإلا فلا، فتنزل الأقسام المتقدمة على هذه الفتيا، وما يسمى صفة لله تعالى ثلاثة أقسام: قديم، ومحدث، ومختلف فيه هل هو قديم، أو محدث، والمحدث قسمان: وجودي نحو الخلق، والرزق، فلا يحلف به، ولا يوجب كفارة، وسلبي نحو الحلم، والإمهال، والعفو؛ لأن الأولين تأخر العقوبة، والثالث: إسقاطها، والظاهر أنه كالوجودي، ولم أر فيه نقلا بخصوصه، والقديم ثلاثة أقسام: ما هو عائد إلى نفس الذات كالوجود، والقدم، والبقاء، فيجوز الحلف به، ويوجب الكفارة، وما هو زائد على الذات وجودي، وهو سبعة: العلم والكلام، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر، وما لحق بها مما في معناها، وإن اختلف اللفظ كالأمانة، والعهد، واختلف في القدم، والبقاء هل هما وجوديان أم لا، وفي الوجه، والعينين، واليدين هل ترجع إلى السبعة على حسب ما تقتضيه قاعدة التعبير في لغة العرب، أو هي صفات وجودية لا نعلمها، والأول الصحيح، وما هو سلبي قسمان: سلب نقص كسلب الجوهر، والعرض عن ذاته، وصفاته تعالى، وسلب المشارك في الكمال، وهو الوحدانية، والظاهر أنهما كالوجودي، ولم أر فيها نقلا بخصوصها مفصلة، والثالث: الذي اختلف فيه هل هو قديم، أو محدث كالغضب، والسخط، والرضا، والرحمة، فإن حقائقها اللغوية مستحيلة عليه تعالى لكونها تغيرات في الأمزجة، وهو تعالى منزه عن المزاج، وتغيراته، فحملها الشيخ أبو الحسن الأشعري على إرادة آثار هذه الأمور لكون المتصف بها من المحدثين يريد هذه الآثار عند قيام هذه المعاني به، فتكون هذه الأمور قديمة في حقه تعالى، وحملها القاضي أبو بكر على آثارها لكونها ملازمة لها غالبا، فعبر عنها، فالمراد بالرحمة الإحسان، والغضب العقوبة فعلى هذا تكون محدثة، فلا توجب كفارة. قال ابن يونس: الحالف برضا الله، ورحمته، وسخطه عليه كفارة واحدة، وهذا يدل على أن الفتيا على مذهب الشيخ دون القاضي، وبسط هذا كله في أصول الدين، وإنما الفقيه يحتاج هاهنا إلى ما يوجب الكفارة، وما لا يوجب، وقد تلخص ذلك مستوعبا بفضل الله تعالى. (تنبيه): الألف واللام في اللغة تكون للعهد، فالقائل العلم، والقدرة تنصرف إلى ما عهد الحلف به، وهو القديم، وأن اللفظ بعمومه يتناول المحدث، والقديم، وأما الإضافة، فلم توضع للعهد، وعلى هذا قال: وعلم الله، وقدرته، وعزته اندرج فيه القديم، والمحدث؛ لأن اسم الجنس إذا أضيف عم، والإضافة تكفي فيها أدنى نسبة كقول أحد حاملي الخشبة مثل طرفك، والمحدثات تضاف إلى الله تعالى؛ لأنه خلقها، ولذلك قال كعب الأحبار في قوله تعالى: (فنفخنا فيه من روحنا) (التحريم: 12) قال: نفخ فيه روحا من أرواحه إشارة إلى أرواح الخلائق كلها، وإن روح عيسى عليه السلام من جملتها. قال صاحب (تهذيب الطالب): الحالف بعزة الله، وعظمته، وجلال الله يكفر كفارة واحدة، وهو متجه في إيجاب الكفارة لا في الجواز أما الكفارة، فلأن الصيغة للعموم، فيندرج فيها القديم، والمحدث، وإذا اجتمع الموجب، وغير الموجب وجب الحكم، وأما الجواز فلاندراج ما لا يباح مع ما يباح إلا أن يقال غلب استعمال هذا اللفظ بخصوصه في القديم حتى صار منقولا له، وما هو أيضا متجه، وقال أشهب: إن أراد بعزة الله، وأمانته القديمة وجبت الكفارة، أو المحدثة لم تجب، وقد قال تعالى: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) (الصافات: 185) و(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) (النساء: 85)، والقديم لا يكون مربوبا، ولا مأمورا به، ولهذه المدارك قال الشافعية، والحنابلة: أسماء الله تعالى قسمان: منهما ما هو مختص به، فهي صريحة في الحلف كقولنا: والله، والرحيم، ومنها ما لا يختص به كالحكيم، والرشيد، والعزيز، والقادر، والمريد، والعالم، فهي كنايات لا تكون يمينا إلا بالنية لأجل التردد بين الموجب، وغير الموجب كما انعقد الإجماع في الطلاق، والظهار، وغيرهما من أبواب الفقه، وجوابهم: أن ذكر هذه الأسماء في سياق الحلف اشتهر عادة يختص بالله تعالى، فأذهب الاحتمال اللغوي النقل العرفي، وأما في غير سياق الحلف، فاللفظ متردد بين القديم، والمحدث، وهذا الجواب يستقيم في الأسماء التي جرت العادة بالحلف بها أما الحكيم، والرشيد، ونحوهما، فلعل كثيرا من الناس لا يعلمها أسماء الله، ولم يشتهر الحلف بها، وأصحابنا عمموا الحكم في الجميع، ولم يفصلوا، وهو مشكل، ووافقنا جمهور الحنفية لكنهم خالفونا في الصفات، فقالوا إن تعارف الناس بالحلف بها كانت يمينا، وإلا فلا سواء كانت صفات الذات، أو صفات الفعل، فاشترطوا الشهرة دوننا، وسووا بين الفعل، وغيره. فرع: في (الكتاب): القائل: إن فعلت كذا، فهو يهودي، أو نصراني، أو بريء من الله، ونحو ذلك ليس بيمين، وليستغفر الله تعالى؛ لأنه التزم انتهاك حرمة الله تعالى على تقدير ممكن، واللائق بالعبد الامتناع من ذلك مطلقا، ووافقنا ابن حنبل في الإثم، وأوجب عليه الكفارة لما يروى عنه عليه السلام أنه سئل عن رجل يقول هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الله، أو من الإسلام في اليمين يحلف بها، فيحنث قال: عليه كفارة يمين، وقال الحنفية: ليس بإثم، وتجب عليه الكفارة؛ لأنه معظم لله تعالى؛ لأن المفهوم من ذكر هذه الأمور في هذا السياق شدة قبحها عند الحالف، ولذلك جعل ملابستها مانعة له من الفعل؛ لأن الموقوف على الممتنع ممتنع، وإذا كان معظما لله تعالى وجبت الكفارة لتعظيمه بذكر أسمائه، وجوابهم أن العبد لو قال لسيده: إن لم أسرج الدابة، فأنا أصفعك أو أفسق بامرأتك لاستحق الأدب في العرف لذكر هذه القبائح لسيده، بل ينبغي أن يقول: لو عرضت علي هذه الأمور لا أفعلها، ولو قطعت، أو انطبقت السماء على الأرض، فإذا قبح ذلك في حق المخلوقين، فأولى في حق رب العالمين سلمنا أنه تعظيم لكن لا نسلم وجوب الكفارة، فإن التسبيح، والتهليل تعظيم اتفاقا، ولا يوجب الكفارة. فرع: في (الكتاب): إذا قال لرجل: أعزم عليك بالله إلا ما فعلت، وأسألك بالله لتفعلن، فامتنع، فلا شيء عليهما، وقاله الشافعي، وقال ابن يونس: إذا أقسم عليه ليفعلن، فيحنث إذا لم يجبه. والأيمان ثلاثة: لغو، وغموس، ومنعقدة، وفي (الاستذكار): في اللغو خمسة مذاهب: أن يحلف على شيء يعتقده، ثم يتبين له خلافه، وهو مذهب الكتاب، ووالله، وبلى، والله مما يغلب على الألسنة من غير قصد إلى اليمين، وبه قال (ش) والقاضي إسماعيل (منا)، وقال ابن حنبل: بالمذهبين، ويمين الغضب لابن عباس، وفي الدارقطني: قال عليه السلام: (لا يمين في غضب، ولا طلاق، ولا عتاق) وهو ضعيف، والحلف على المعصية، فيتركها لسعيد بن جبير، وتحريم المباح لابن عباس أيضا، والغموس: في (الكتاب): الحلف على تعمد الكذب. قال ابن أبي زيد في الرسالة: أو على الشك، وهي أعظم من أن تكفر، وقاله (ح)، وابن حنبل، وقال (ش): تكفر بطريق الأولى؛ لأنها معصية، والتكفير شأن المعاصي، وجوابه: أن كفارة الأيمان ليست لزوال الإثم لقوله عليه السلام: (فليكفر، وليأت الذي هو خير) والمأمور به: لا يكون معصية، بل هي تشريف بالتكليف، والمعصية تنافي شرف المخاطبة، وفتح باب القربة، ولقوله تعالى: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) (المائدة: 89)، والغموس: لا تقبل الحل، فلا تقبل العقد كما لا يقال للحائط: أعمى؛ لأنه لا يقال: بصير. قال ابن يونس: وهي من الكبائر؛ لأنها في الحديث معدودة منها، والمنعقدة في (الكتاب): هي الحلف على إيجاد الفعل المستقبل، أو عدمه بأسماء الله تعالى، وصفاته العلى فهذه هي التي توجب الكفارة. قال أبو الطاهر: إذا قصد الحالف بتكرار يمينه تعدد الكفارات تعددت، أو اتحادها اتحدت، وإن لم يقصد، والمعنى واحد، واللفظ واحد، أو متعدد اتحدت كالحلف بأسماء الله تعالى، وإن تعدد المعنى تعددت كالحلف بالصفات، وإن حلف على أشياء بالعطف، وقصد اتحاد اليمين اتحدت، وهل يقع الحنث ببعضها، وهو المشهور، أو بالجميع قولان، وإذا أتى بلفظ يدل على التكرار تكررت الكفارة نحو كلما، أو متى، وإلا فلا تتكرر إلا أن يظهر ذلك من قصد الحالف كالحالف لا يترك الوتر، أو لا يشرب الخمر بالمدينة النبوية؛ لأن المقصود اجتناب ذلك في سائر الأوقات لشرف الوتر، والمدينة بخلاف لا كلمت زيدا، وقالت الحنفية: إذا كرر الأسماء، أو الاسم الواحد بغير عطف، فكفارة واحدة؛ لأن الثاني يجري مجرى الصفة للأول، وبالعطف كفارتان؛ لأن العطف يوجب التعدد، ولذلك يجوز للحاكم تأكيد اليمين بغير عطف، ولا يجوز بالعطف؛ لأن المستحق على الخصم يمين واحدة، وجوابهم أن العلماء اختلفوا في قوله تعالى: (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى) (الليل: 1)، ونحوه هل الواو الثانية للعطف، أو للقسم، والصحيح عندهم أنها حفظت بالعطف لا بالقسم؛ لأن القسم بالشيء تعظيم له، والانتقال عنه إلى القسم بغيره إعراض عنه، والإعراض يأبى التعظيم، وأما العطف عليه، فتقدير له يجعل غيره تابعا له في معناه، فيكون القسم واحدا وقعت فيه الشركة، فالمتعدد متعلقة؛ لأنها أقسام متعددة، وإذا اتحد القسم اتحدت الكفارة، ووافقنا ابن حنبل، وفي (الكتاب): إذا قال: علي عشر كفارات، أو مواثيق، أو نذور لزمه عدد ذلك كفارات. قال اللخمي: لأن النطق بالعدد يقتضي إرادته بخلاف التكرير، فحمل على التأكيد، وإن قال: والعزيز، وعزة الله، فكفارتان. قال ابن يونس: قال محمد: إذا حلف بعدة أسماء، أو كرر اسما واحدا، فكفارة واحدة. قال ابن حبيب: وكذلك تعدد الصفات؛ لأنها ليست غير الذات، وقيل: بتعدد الكفارة؛ لأن مفهوم القدرة غير مفهوم العلم، والأسماء يعبر بها عن مسمى واحد، وما امتنع إطلاق لفظ الغير إلا لأن الغير في اللغة هو الذي شأنه المفارقة بالزمان، والمكان، فإطلاق لفظ الغير عليها يوهم ذلك، وإطلاق الموهم ممنوع قال: وينبغي التفصيل، فما يرجع لمعنى واحد، فكفارة واحدة كالعزة، والجلال، والعظمة، وكالميثاق، والعهد، وكالقرآن، والتوراة، والإنجيل، فإنها ترجع إلى صفة الكمال، وإلا تعددت الكفارة. قال اللخمي: ولو قال: والله، ثم والله، ثم والله، فكفارة واحدة، وأرى أنها ثلاث، وقال ابن عبد الحكم بالتعدد في الواو مع واو القسم، وفي (الكتاب): إذا حلف: لا أجامعكن، فجامع واحدة، أو الجميع، فكفارة واحدة؛ لأن الكفارة لمخالفة اليمين، وهي واحدة، والقائل: والله لا دخلت هذا الدار، والله لا كلمت فلانا تعددت الكفارة لتعدد اليمين، ولو كرر اليمين على شيء واحد في مجلس واحد، أو مجالس، فكفارة واحدة حتى ينوي التأسيس، ولو كرر لفظ النذر تعددت الكفارة نوى أم لا. قال ابن يونس: قال محمد: إذا قال: علي ثلاثة نذور، فثلاث كفارات، والفرق بين تكرار الطلاق يحمل على الإنشاء دون التأكيد، واليمين على التأكيد أن الطلاق مختلف، فأولى بوجوب التحريم، والثانية تقرب من الثلاث، والثالثة تحريم إلا بعد زوج آخر، ومعنى الأيمان واحد، وهو إيجاب الكفارة، وبين النذر، واليمين أن أصل وضع اليمين لتأكيد المخبر عنه، فلما كان أصلها للتأكيد حملت عليه عند عدم النية، وموضوع النذر اللزوم، فحمل على الإنشاء، ومن حلف فقيل له: يحنثك، فحلف لا يحنث فكفارتان، وإن حلف لا باع من فلان، فقال له آخر: وأنا، فقال: والله ولا أنت، فكفارتان إن باع منهما، أو من أحدهما، فردها عليه، فباعها من الثاني عند ابن القاسم، ولو حلف لا باعها من فلان، ولا من فلان، فباعها منهما، أو من أحدهما، فكفارة واحدة، وفي (الكتاب): والحالف لا يكلم فلانا، ثم قال: علي حجة، أو عمرة إن كلمته فهما يمينان. قال ابن يونس: قال ابن القاسم: وإن قال: والله لا أكلمه غدا، والله لا أكلمه بعد غد، والله لا أكلمه غدا، فكفارتان أن كلمة في اليومين، وإن قال: والله لا أكلمه غداً، ولا أكلمه غدا، ولا بعد غد، فكلمه غدا، فكفارتان؛ لأنهما يمينان على متابينين، وقد تناولا غدا، فإن كلمه بعد غد، فلا شيء عليه؛ لأن اليمين انحلت بالغد؛ لأنه جزء ما حلف عليه في اليمين الثاني، وإن كلمة بعد غد فقط، فكفارة واحدة، ولا ينوي أنه أراد باليمين الثانية الأولى كمن قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، إن كلمت زيدا فأنت طالق لا ينوي أنه أراد بالثانية الأولى، ولو قال: والله لا كلمتك غدا، أو بعد غد، ثم قال: والله لا كلمتك غدا، فكلمه غدا، فكفارة واحدة؛ لأن اليمين الأولى اقتضت مطلق أحدهما، والثانية خصوص الثاني، وقيدت ذلك المطلق، والمطلق في ضمن المقيد، فاجتمعا على شيء واحد بخلاف لو حلف لا يكلمه غدا، ثم حلف أو بعد غد؛ لأن المطلق في اليمين الأولى ليس محلوفا عليه، والثانية منشئة للحلف فيه، فلم يترادفا، وفي (الكتاب): لو حلف: لا يكلم زيدا عشرة أيام، فكلمه فيها مرارا، فكفارة واحدة، وفي (البيان): إذا قلنا بالكفارة في الحلف بالقرآن، فقال: والقرآن، والمصحف، والكتاب، فثلاث كفارات عند ابن القاسم لاختلاف المسميات، وإن كان المعنى واحدا، وهو الكلام القديم. (تمهيد): يقع التداخل في الشريعة في ستة مواضع: في الطهارات كالوضوء إذا تعددت أسبابه، أو تكرر السبب الواحد، والغسل إذا اختلفت أسبابه، أو تكرر السبب الواحد، والوضوء مع الجنابة، وفي تداخل طهارة الحدث والخبث خلاف، وفي العبادات: كسجود السهو إذا تعددت أسبابه، وتحية المسجد مع الفرض، والعمرة مع الحج، وفي الكفارات: في الأيمان، وكما لو أفطر في اليوم الواحد من رمضان مرارا بخلاف اليومين، أو أكثر خلافا لـ (ح) في إيجابه كفارة واحدة في جملة رمضان، واختلف قوله في الرمضانين، وفي الحدود إذا تماثلت، وهي أولى بالتداخل لكونها مهلكة، وفي العدد على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى، وفي الأموال كدية الأطراف مع النفس، والصدقات في وطء الشبهات إذا تكرر الوطء، في الشبهة الواحدة، ويدخل المتقدم في المتأخر كالأطراف مع النفس، والمتأخر في المتقدم كوطء الشبهة، والكثير في القليل كالأطراف مع النفس، والقليل في الكثير كالأصبع مع النفس، والوضوء مع الغسل، والعمرة مع الحج. وهو مأخوذ من الثني؛ لأن المتكلم رجع إلى كلامه بعد مفارقته، فأخرج بعضه كما يرجع نصف الثوب على نصفه، وهو حقيقة في الإخراج بإلا وأخواتها، ثم يطلق على قولنا: إن شاء الله تعالى مجازا؛ لأنه شرط مشروط، والشرط ليس باستثناء، والعلاقة بينهما أن الشرط مخرج من المشروط أحوال عدم الشرط، فالشرط مخرج لبعض الأحوال، والاستثناء لبعض الأشخاص، ويدل على تسمية هذا الشرط استثناء قوله عليه السلام: (من حلف، واستثنى عاد كمن لم يحلف) ومراده ذلك، فإن الاستثناء بإلا لا يبطل حكم اليمين إجماعا، وهاهنا بحثان: البحث الأول: في الاستثناء الحقيقي، وهو الاستثناء بإلا، وغير، وسوى، وحاشا، وخلا، وليس، ولا يكون، ونحوها، ولا بد من اتصاله بالكلام، والنطق به على الفور عادة احترازا من العطاس، أو السعال قبله بعد الكلام، وفي المقدمات لا يقع الاستثناء بإلا من الأعداد، وإن اتصل ما لم يبن كلامه عليه نحو: والله لأعطينك ثلاثة دراهم إلا درهما، وكذلك أنت طالق ثلاثا إلا واحدة بخلاف العموم، وبخلاف الاستثناء بمشيئة الله تعالى، فإنه يكفي فيها الاتصال، وإن لم يبن الكلام عليه، ولا يدخل الاستثناء أيضا فيما نص عليه بالعطف نحو والله لأعطين زيدا، أو عمرا، أو خالدا إلا زيدا، فإن فيه إبطال حكم زيد، وهو منصوص عليه، وبخلاف ما اندرج مع المخصوص ضمنا، وقال القاضي: يجوز عندنا استثناء شطر الشيء، وأكثره، والاستثناء عندنا من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي خلافا لـ (ح). البحث الثاني: في الاستثناء المجازي، وفي (الكتاب): من حلف بأسماء الله تعالى، أو بصفاته العلى، أو نذر نذرا لا مخرج له، وقال: إن شاء الله، فإن أراد الاستثناء انحلت يمينه، أو التبرك لقوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) (الكهف: 23) فيمينه منعقدة، ويكفي حدوث القصد إليه بعد اللفظ إذا وصله باليمين، وإلا فلا، ولا تكفي فيه النية، بل لا بد من التلفظ، وفي أبي داود قال عليه السلام: (من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث) وفي (الجلاب): إن قطعه بسعال، أو عطاس، أو تثاؤب لم يضره، ووافقنا الأئمة على وجوب الاتصال، وعن ابن حنبل أيضا يجوز الانفصال ما لم يطل، وقال بعض أصحابه: ما دام في المجلس لما في أبي داود قال عليه السلام: (والله لأغزون قريشا، ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله) وجوابه: أنه أدب لأجل اليمين لقوله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيت) (الكهف: 24). قواعد: كل متكلم له عرف يحمل لفظه على عرفه في الشرعيات، والمعاملات، والإقرارات، وسائر التصرفات، والشرع له في الحلف نوع شرع له، واختص به، فهو عرفه، وهو الحلف بالله تعالى، وصفاته العلى فيختص قوله عليه السلام: (من حلف، واستثنى) به، ولا يتعدى إلى الطلاق، والعتاق، والنذور خلافا لـ (ش)، فالاستثناء جعله الشرع سببا حالا لليمين، والأصل عدم نصبه سببا لحل غيره، وسلامة غيره عن الحل، والنقض، والنذر الذي لا مخرج له كفارته كفارة يمين، فلذلك سوي باليمين، ولم تكف النية؛ لأن المنصوب سببا للحل إنما هو هذا اللفظ، ولم يوجد، والقصد إلى الأسباب الشرعية لا يقوم مقامها، والنية إنما نصبت سببا في التخصيص، والتقييد، فيما لم يبق الكلام عليه، فلا جرم يستقل بهما. قال اللخمي: الاستثناء يصح بمشيئة الله تعالى، أو آدمي حي، أو ميت، والمجمع عليه ما فيه النطق، والنسق، والنية قبل اليمين، أو في موضع لو سكت لم تنعقد اليمين، وعلى القول بانعقاد اليمين بمجرد النية يصح الاستثناء بالنية، وقال محمد: كل ما فيه إن شاء الله تعالى، أو إلا أن يشاء الله، وإلا نحو: لقيت القوم، وينوي في نفسه إلا فلانا، فهذه الثلاثة لا يجزئ فيها إلا تحريك اللسان، وقيل: يكفي في (إلا) النية بخلاف الآخرين، ولم تختلف أن المحاشاة تكفي فيها النية، وهي الإخراج قبل اليمين، وقال محمد: لا بد من نية الاستثناء قبل حرف من اليمين؛ لأنه لو سكت حينئذ لم تنعقد أما بعد الإتمام لا يمكن رفع المنعقد، والبحث معه هل الاستثناء راجع للسبب المنعقد، وهو المذهب، وإنما نصبه الشرع مانعا من الانعقاد، وظاهر كلام الشرع في قوله: من حلف كمال الحلف، فظاهر الحديث مع ظاهر المذهب. قال ابن يونس: قوله: إلا أن يقضي الله، أو يريد الله كقوله يشاء الله، وفي (البيان): قال ابن القاسم: إذا قال: إلا أن يقضي الله تعالى غير ذلك ليس استثناء؛ لأن هذا معلوم من اليمين قبل قوله خرج لفظ المشيئة، فالدليل نفي بقية ألفاظ القضاء، والقدر على الأصل، وقال عيسى: هو ثنيا للمساواة في المعنى، وكذلك إلا أن يرني الله غير ذلك، وفرق أصبغ بينهما، فمنع الأخير، وهذا يجب أن يرجع إلى الخلاف في الأسباب الشرعية هل القياس عليهما إذا عقل معناها أم لا كما قيل في قياس النبش على السرقة، واللواط على الزنا، وفي (الجواهر): اختلف الأصحاب هل الاستثناء حل لليمين؟ وهو قول القاضي وفقهاء الأمصار، أو بدل من الكفارة، وهو قول ابن القاسم، ويعضد الأول ظاهر الحديث، وأن انتفاء الحكم الذي هو الكفارة؛ لانتفاء سببه أولى من انتفائه لقيام مانعه، ويعضد الثاني: أن الأصل عدم إيجاب اليمين للكفارة، وحيث اشترطنا النطق، فيكفي فيه تحريك شفتيه من غير جهر إلا المستحلف لا بد من جهره، ولا بد من الاستثناء من قصد حال اليمين، أو التفويض إلى مشيئة الله تعالى. وهي أربعة عشر مدركا: المدرك الأول: النية، واعلم أن الحنث في اللغة لفظ مشترك بين الإثم، ومنه: بلغ الصبي الحنث أي زمانا يكتب عليه الإثم، وبين المخالفة لليمين. قال الجوهري: والبر في اللغة ضد العقوق، ومنه: بر الوالدين أي موافقتهما، فالموافق لمقتضى اليمين بار، والمخالف حانث، سواء كان آثما أم لا. قال الجوهري: وللبر لفظان: لا فعلت، وإن فعلت، ويجمعهما التزام عدم الفعل، وللحنث لفظان: إن لم أفعل، ولأفعلن، ويجمعهما التزام وجود الفعل، فهو الآن على خلاف مقتضى اليمين بخلاف الأول فلذلك قيل له: هو على حنث إلا أن يضرب أجلا، فهو على بر؛ لأنه إنما التزم أن لا يخلي ذلك الزمان من الفعل، ولم يتعين خلوه إلا بمضي الزمان، وفي (الجواهر): النية تقيد المطلقات، وتخصص العمومات، إذا صلح لها اللفظ كانت مطابقة له، أو زائدة فيه، أو ناقصة منه قال: الخمي هي ثلاثة أقسام: إن كانت في الطلاق، أو العتاق، وأحلفه الطالب لم يصدق في بينة، وقضي بالظاهر، فإن لم تكن عليه بينة، أو يمينه مما لا يقضى بها، فهل هي على نية الطالب، أو الحالف؟ قولان. وإن تطوع باليمين، وكان له التخلص بغيرها، فله نيته، وقيل: على نية الطالب، وإن دفع بها ظلما، فله نيته، وإن حلف بالحرام على قضاء حق: قال مالك: لا تنفعه محاشاة زوجته. قال ابن القاسم: وسواء استحلفه الطالب، وضيق عليه حتى بدر باليمين، وإن حلف بها ابتداء من غير طلب، ولا إلجاء، فله نيته، وروي عن مالك: تنفعه المحاشاة في الحرم، وإن كان مستحلفا للخلاف في الحرام بخلاف غيره. قال أبو الطاهر: إذا لم تحضره بينة، ففي ظاهر المذهب قولان، والصحيح: قبولها إذا ظهر لها محمل، وإن احتملها اللفظ على قرب قبلت إن لم تقم بينة قولا واحدا، وإلا قضى بمقتضى اللفظ حيث وجد. قال صاحب (الإكمال): لا خلاف أن المستحلف في حق يقضى عليه بظاهر يمينه، فأما بينه وبين الله تعالى، ففي حنثه أقوال. قال مالك، وابن القاسم: الحلف على نية المستحلف، وقيل: على نية المحلوف له مطلقا استحلف أم لا، وقيل: على نية الحالف، وقيل. عكس قول مالك للمستحلف نيته، والمتطوع على نية المحلوف له، وقيل: ينفعه فيما لا يقضى عليه، ويفترق المتطوع، وغيره، فيما يقضى به، وهو مروي عن ابن القاسم أيضا. قاعدة: يجوز - عندنا - التقييد، والتخصيص في مدلول اللفظ المطابقي، والتضميني، والالتزامي، وقاله (ش)، وقال (ح): لا يجوز في الالتزامي، ويتخرج على الخلاف في الحالف لا آكل، فيجوز له عندنا تخصيصه، أو تقييده إن قيل: بعدم العموم ببعض المأكولات، فلا يحنث بما سواه، وعنده لا يجوز؛ لأن الفعل إنما يدل على المأكولات التزاما، فيحنث عنده بجملة المأكولات، ولا تنفعه النية. لنا مدركان: أحدهما قوله تعالى: (لتأتنني به إلا أن يحاط بكم) (يوسف: 66) أخرج حالة الإحاطة من الحالات التي لم يدل عليها اللفظ إلا التزاما، فكذلك يصح الإخراج بالنية لبعض المفاعيل، والأزمنة، والبقاع بجامع احتياج المكلف إلى تمييز موضع المصلحة، وكلاهما إخراج الثاني، ووافقنا على ما إذا قال: لا آكل أكلا إن النية تنفعه، والأكل إنما يدل على المأكولات التزاما، وهو بعينه المراد بالفعل. تنبيه: يسأل الحالف باللفظ العام، فإن قال: أردت بعض أنواعه لا يلتفت لنيته، ويعتبر عموم لفظه؛ لأن هذه النية مؤكدة للفظ في ذلك النوع غير صارفة له على بقية الأنواع، ومن شرط النية المخصصة أن تكون صارفة، فإن قال: أردت إخراج ما عدا هذا النوع حملت يمينه على ما بقي بعد الإخراج، ومن شرط النية المخصصة أن تكون منافية لمقتضى اللفظ بخلاف المقيدة، وقاله الأئمة، وهذا مقام لا يحققه أكثر مفتي العصر. المدرك الثاني: السبب المنير لليمين، ويسمى البساط، وفي (الجواهر): هو عندنا معتبر في تخصيص اللفظ لبعض معانيه، وتعميمه فيما هو أهم من مسمى اللفظ نحو قول الحالف: لا شربت لك ماء من عطش عقيب كلام يقتضى المنة، فإنا نحمله على عموم ما فيه منة لأجل السبب المؤثر لليمين، وقاله ابن حنبل خلافا لـ (ش)، و(ح). لنا: إن اللفظ بعد انضمامه للسبب يصير ظاهرا فيما ذكرناه، فيحمل عليه كالعرف مع اللفظ بجامع موجب الظهور، ولقوله تعالى: (ولا تظلمون فتيلا) (النساء: 77)، (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (الزلزلة: 7)، والمراد العموم، فالتنبيه: ببعض أنواع الشيء، أو إفراده عليه كلام عرفي معلوم، وقرينة تقديم السبب تصيره نصا، أو ظاهرا في ذلك المعنى يستغنى بظهوره عن النية كسائر الظواهر، وتمسك بعض الأصحاب بتخريجه على خلاف العلماء في ورود الخطاب عقيب السبب هل يحمل عليه أم لا، وهو غير مستقيم؛ لأن الخلاف ثمة إنما هو هل يختص بالسبب، أو ينظر إلى عموم اللفظ أما تعميم الحكم، فيما هو أعم من اللفظ فلم يقل به أحد ثمة، فلا يستقيم التخريج. تفريع: في (الكتاب): لو من عليه بهبة، فحلف لا يأكل من لبنها، ولا لحمها حنث بما اشترى من ثمنها أكلا، أو لباسا بخلاف غير ثمنها إلا أن يكون نوى أن لا ينتفع منه بشيء. المدرك الثالث: العرف، وهو قسمان: فعلي، وقولي، والقولي قسمان في المفردات، والمركبات، وعرف المفردات قسمان: في بعض أفراد الحقيقة اللغوية، وأجنبي منها، فالفعلي هو غلبة ملابسة بعض أنواع مسمى اللفظ، وهو غير مقدم على اللغة، ولا معارض للوضع كما لو حلف الملك لا يأكل خبزا. وعادته أكل الحوارى، ولا نية له، فإنه يحنث بالجريش؛ لأن اللفظ لم يختص بالحوارى، والأصل: اعتبار اللغة، والقولي في بعض أفراد الحقيقة كلفظ الدابة غلب استعماله في الحمار حتى صار لا يفهم من اللفظ غيره، وكذلك الصلاة، وسائر العبادات، واصطلاحات أرباب العلوم، والصناعات، والأجنبي من الحقيقة نحو لفظ الغائط، فإنه المكان المطمئن، وغلب استعماله في الفضلة الخارجة من الإنسان، وهي ليست بعض المواضع المطمئنة، وعرف المركبات كغلبة استعمال مركب مخصوص، ومعنى مخصوص في سياق مخصوص حتى يصير أشهر فيه مما لا تقتضيه لغة كقول القائل لغريمه لأقضينك في رأس الشهر في قصد عدم التأخير عن هذه الغاية دون التأخير إلى رأس الشهر، وقول القائل لامرأته، والله لا كسوتك في إرادة التضييق دون خصوص الكسوة حتى يحنث بدفع الدراهم إليها، وهذا القسم من العرف غير بساط اليمين، فإن البساط حالة تتقدم الحلف تختلف في صوره، وهذا العرف يعلمه من نفس اللفظ المركب مع الجهل بالحالة كيف كانت، فالعرف القولي كله مقدم على اللغة؛ لأنه عليه استعمال اللفظ في غير المسمى اللغوي، فهو ناسخ اللغة، والناسخ مقدم على المنسوخ، بخلاف الفعلي ليس معارضا للفظ النية، ففرق بين غلبة استعمال اللفظ في غير مسماه، وبين غلبة ملابسة بعض أنواع مسماه، فتفطن لهذه المدارك، فهي حسنة. تفريع: في (الكتاب): الحالف ليقضينه حقه غدا، فقضاه اليوم بر خلافا لـ (ش). قال ابن يونس: قال مالك: لو سأله قرض خمسة عشر، فحلف ليس معه إلا عشرة، فوجدها تسعة لا يحنث؛ لأن المقصود في العادة ليس معنا إلا عشرة، فما دون، ولو وجدها أحد عشر حنث. قال ابن القاسم: الحالف لا يبيع بمائة دينار يزاد للمائة دينار، وللخمسين نصف دينار إلا أن تكون له نية، وقال ابن عبد الحكم: يبر بأقل من ربع دينار، وفي (الكتاب): الحالف لا يكسو زيدا، أو امرأته، فأعطاه، أو إياها ما اشترى به ثوبا حنث، وإن افتك ثيابها من الرهن حنث، ثم عرضتها عليه، فقال امحها، وأرى أن لا يحنث (إن واشرا ثوب أوهبه، ولا حنث). نظائر: الممحوات في (الكتاب) أربعة: هذه، وإذا ولدت الأضحية، فحسن أن يذبح معها ولدها، وإن أبى لم أر ذلك عليه، ثم قال: امحها، واترك إن ذبح، فحسن. قال ابن القاسم: ولا أرى ذلك عليه واجبا، ولا يجوز نكاح المريض، والمريضة، ويفسخ وإن دخلا، وكان يقول: لا يثبت وإن صحا، فمحاه، وقال: يثبت، وإذا سرق ولا يمين له، أو له يمين شلاء قال: تقطع رجله اليسرى، ثم قال: امحها، بل يده اليسرى، وبالأول قال ابن القاسم. قال: والحالف لا يهب لأجنبي، أو امرأته دنانير، فيكسوهما، أو يعطي الرجل فرسا، أو عرضا يحنث؛ لأن المقصود بهذا في العادة تجنب النفع، فإن نوى الدنانير دون غيرها نوي في الزوجة دون الرجل؛ لأن العادة كراهة دفع الذهب للنساء لسوء نظرهن. قال ابن يونس: ينوى عندي في الرجل كالمرأة إذا علم من حاله سوء نظره في الذهب. قال أبو محمد: إنما يعني في الزوجة غير الثياب اللازمة أما اللازمة، فلا يحنث، وفي (البيان): الحالف ليوفينه حقه بموضع كذا، فلم يجده. قال ابن القاسم: لا شيء عليه. المدرك الرابع: مقتضى اللفظة لغة، في (الجواهر): المشهور ترتيب هذه المدارك في الاعتبار على ما تقدم إن فقدت النية فالبساط، فإن فقد فالعرف، فإن فقد فاللغة، وقال (ش)، و(ح)، وقال أبو الطاهر: إن فقدت النية، والبساط، فهل يحمل اللفظ على اللغة، أو العرف، أو مقتضاه شرعا إن وجد ثلاثة أقوال. قال أبو الوليد: هذا في المظنون أما المعلوم كقوله: والله لأرينه النجوم بالنهار، ونحوه، فلا خلاف أنه يحمل على ما علم من ذلك من المبالغة دون الحقيقة. قال اللخمي: إذا اجتمع البساط، والعادة، واللغة قيل: يحمل على اللغة دون البساط، والعادة، وقيل: على البساط دون العادة، وقيل: عليهما. تفريع على هذا المدرك: في (الكتاب): الحالف لا يلبس ثياب فلان، ولا يسكن داره، ولا يأكل طعامه، فاشترى ذلك منه، وفعل ما حلف عليه لا يحنث إلا أن يكره تلك الأشياء لمعان فيها، وإن انتقلت إليه بالهبة دون الصدقة، ففعل فيها ذلك حنث إن كان الحلف لدفع المنة، ولو أطعم المحلوف ولد الحالف خبزا، فأكل منه الأب غير عالم حنث، وفي (النكت) قال بعض القرويين: إن كان الأب موسرا له رد ما وهب للصبي حنث، وإلا فلا، وهو معنى قول مالك، والعبد، والولد سواء إلا أن يكون على العبد دين، فليس له رد ما وهب له قال التونسي: ولم يفرق مالك، ولعله أراد أن ذلك يسير للأب رده أما ما له بال لا يقدر على رده، فلا ينبغي الحنث، وإن حلف لا ينتفع بشيء من مال فلان، فأطعم فلان ولد الحالف، فإن كان يسيرا لا يدفع عنه مؤنة ابنه لم يحنث، وإلا حنث. قال ابن يونس: قال سحنون: يحنث بالولد دون الأب، ولم يفصل. قال مالك: والحالف بالطلاق لا يأكل طعام فلان، فاشتريا طعاما، فأكلاه يحلف ما أراد إلا طعاما خالصا، ولا شيء عليه. قال أصبغ: لا يحنث إذا أكل مثل طعامه فأقل، وفي (الكتاب): الحالف لزوجته لا تخرج إلا بإذنه، فأذن لها في سفر، أو حيث لا تسمعه، وأشهد، فخرجت بعد إذنه، وقيل: علمها بإذنه، فإنه حانث خلافا لـ (ش)؛ لأنها خرجت بداعيتها لا بإذنه، والحالف لا يأذن لها إلا في عيادة مريض، فخرجت بإذنه، ثم مضت إلى حاجة أخرى لم يحنث؛ لأن ذلك بغير إذنه إلا أن يتركها بعد علمه، وقال (ش): إذا قال لها: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فخرجت مرة بإذنه انحلت اليمين، فإن خرجت بعد ذلك بغير إذنه لم يحنث خلافا لـ (ش)، ولـ (ح) لنا: أن اليمين لا تحل إلا بالحنث، ولم يحنث. قاعدة: الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي لغة، ومقتضى ذلك أن الحالف حلف على أمرين الإثبات، والنفي، فيكون معنى قوله لا آذن لك إلا في عيادة مريض، والله لا تخرجين للمريض إلا بإذني، والله لا آذن لك في غيرها، فإن خرجت لمريض بغير إذنه حنث، وكذلك إذا قال: والله لا لبست ثوبا إلا الكتان ينبغي أن يحنث إذا لم يلبس الكتان وقعد عريانا، وبه قال الشافعية خلافا لنا. قال صاحب (القبس) في كتاب الصلاة منه: حلف شخص بالبيت المقدس لا لعبت معك شطرنجا إلا هذا الدست، فجاء رجل، فخبط عليهم ذلك الدست. قال: اختلفت فتاوى الفقهاء فيه حينئذ، فأفتى بعض الشافعية بعدم حنثه، وأفتى غيرهم بحنثه، واجتمعت بعد ذلك بالطرطوشي، فأفتى بعدم الحنث حجتنا من وجوه: الأول: إن هذا استثناء إثبات من الحلف لا من المحلوف عليه، فيكون الكتان غير محلوف عليه، فلا يحنث، ويؤكده أن قبل النطق بإلا كان حكم اليمين متقررا، فقد تقدم قبلها أمران: حكم اليمين، وكونه محلوفا عليه، فليس صرف الاستثناء إلى عدم اللبس بأولى من صرفه إلى الحلف، بل الحلف أولى؛ لأن الأصل براءة الذمة من الكفارة. الثاني: سلمنا أنه استثناء من نفي، وهو عدم اللبس، فيكون مخبرا عن اللبس، فيما بعد إلا لكن لا يلزم أن يكون محلوفا عليه؛ لأن الأصل عدم تعلق اليمين بأكثر من واحد. الثالث: قدمنا أنه يقتضي في اللغة أن ما بعد إلا محلوف عليه لكن إذا لم تكن إلا بمعنى غير، وسواء، فإنها تستعمل بمعناها لقوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (الأنبياء: 22) أي غير الله، وعلى هذا التقدير يكون المحلوف عليه هو اللبس الموصوف بكونه مغايرا للكتان، والكتان ليس داخلا فيه. الرابع: سلمنا أنها ليست لصفة لكن العرف اقتضى أن ما بعدها ليس محلوفا عليه، فإنه لا يفهم عرفا إلا ذلك، والعرف مقدم على اللغة. تفريع: قال اللخمي: قال محمد: الحالف: لا خرجت بإذني، ثم قال: اخرجي حيث شئت، فخرجت لم يحنث، وإن قال: لا خرجت لموضع إلا بإذني، ثم قال: اخرجي حيث شئت، فخرجت حنث، وقيل: هو كالأول، وإن أذن لها، ولم تخرج حتى منعها حنث. قال مالك: وإن خرجت، ثم رجعت لحاجتها، ثم خرجت لم يحنث، وإن رجعت رفضا لخروجها حنث، وقال ابن القاسم: هو حانث، ولم يفرق. قال ابن حبيب: إن لم تبلغ الموضع الذي خرجت إليه لم يحنث، وإلا حنث، وإن حلف لا خرجت إلا بإذني، فرآها تخرج، ولم يمنعها حنث، وإن حلف لا أذنت لك، فرآها، ولم يمنعها، فإن أراد منعها من الخروج حنث، وإن حلف لا خرجت إلا لعيادة مريض بإذنه، فخرجت لغير مريض، أو لمريض بغير إذنه حنث. قال ابن القاسم: القائل أنت طالق إن خرجت إلى أهلك، فخرجت، ولم تبلغ أهلها حتى ردها حنث؛ لأنها قد خرجت لهذا الغرض. تفاريع اثنا عشر: الأول: في (الكتاب): الحالف: لا يلبس هذا الثوب، فيقطعه قباء، أو قميصا، أو غيره يحنث بلبسه إلا أن يكرهه لضيقه، وإن اتزر به، أو لف به رأسه، أو جعله على منكبه حنث، ولو جعله في الليل على فرجه، ولم يعلم لم يحنث؛ لأن هذا ليس لبسا. قال ابن يونس: من سما أشهب: إن حلف أن لا يضطجع على فراش ففتقه والتحف والتف به حنث، إلا أن يكرهه لحشوه. الثاني: في (الكتاب): الحالف: لا يركب دابة فلان، فركب دابة عبده يحنث إذ لو اشترى العبد من يعتق على سيده عتق، وقال أشهب: لا يحنث. الثالث: في (الكتاب): إن الحالف لا ثوب له، وله ثوب مرهون، فحنث كان فيه فضل أم لا، وإن حلف ليعلمنه، أو ليخبرنه بكذا فعلماه جميعا لم يبر حتى أسره المسر لآخر، ثم ذكره الآخر للحالف، فقال له: ما حسبت أنه أسره إلى غيري حنث، والحالف لا يتكفل بالمال يحنث بالكفالة بالنفس؛ لأنها كفالة بالمال إلا أن يشترط عدم المال لا يحنث، والحالف لا يتكفل لفلان، فتكفل لوكيله، ولم يعلم أنه وكيله لم يحنث، والحالف ليضربن عبده مائة سوط، فيجمعها، ويضربه بها ضربة واحدة لم يبر، وقاله ابن حنبل خلافا لـ (ش)، و(ح)؛ لأنه ضرب بمائة سوط، ولم يضربه مائة سوط، وكذلك لو ضربه بسوط له رأسان خمسين، أو ضربه ضربا غير مؤلم؛ لأن العرف يفرق بين الضرب، والمس بالإيلام. الرابع: في (الكتاب): الحالف: ليقضينه حقه إلى أجل، فقضاه فوجد فيه نقصا بينا، أو دانقا لا يجوز، واستحق من يده، فطالبه بعد الأجل حنث، والحالف لا يفارقه إلا بحقه، فأحاله، ثم وجد فيه ما ذكرناه بعد المفارقة يحنث، ولو أعطاه عرضا يساويه بر، ثم استثقله مالك، وبالأول قال ابن القاسم، والحالف: لا يفارقه إلا بحقه، ففر منه، أو أفلت حنث إلا أن يكون معنى قوله: لا أتركه إلا أن يفر، أو أغلب عليه. الخامس: في (الجواهر): الحالف: لا يفارق غريمة إلا بحقه لا يبر بالكفيل، والرهن، والحوالة، والحالف لا يفارقه إلا بنفقة يبر بالثلاثة، والحالف: لا يفارقه وبينه وبينه معاملة يبر بالحوالة دون الكفيل، والرهن. السادس: قال ابن يونس: الحالف: ليبيعن عبده إلى أجل، فباعه قبل الأجل، فرد بعيب، ففي تحنيثه أقوال: ثالثها: التفرقة بين علمه بالعيب، فيحنث، أو عدم علمه، فلا يحنث، وقال عبد الملك: الحالف: لا ينفعه ما عاش، فمات، فكفنه حنث؛ لأن الكفن من توابع الحياة، وكذلك لو حلف لا يدخل عليه ما عاش خلافا لسحنون، ولو حلف: لا ينفعه، فنفع بنهي عن شتمه لا يحنث؛ لأنه دفع ضرر لا تحصيل نفع، بخلاف ما لو خلصه من يد خصمه قال محمد: ولو أوصى به بوصية، ثم رجع عنها حنث. السابع: في (الكتاب): الحالف لامرأته: لا قبلتك، أو ضاجعتك، فقبلته من ورائه، أو ضاجعته نائما لا يحنث إلا أن يسترخي للقبلة، والحالف: لا قبلتني، أو ضاجعتني يحنث مطلقا. الثامن: في الحالف ليقضينه رأس الشهر، أو عند رأس الشهر، أو إذا استهل، فله يوم وليلة أول الشهر، وإن قال: إلى رمضان، أو إلى استهلاله حنث بمجرد الاستهلال، ولم يبر بهبة الحق، أو إسقاطه صدقة، أو صلة؛ لأنه ليس نقصا، وإن مات رب الحق قبل الأجل دفعه لورثته، أو وصية، أو رق للسلطان قبل الأجل، والحالف: لا يهبه يحنث بالصدقة، والعارية، ونحوهما إلا أن تكون له نية. قال ابن يونس: قال التونسي: حنثه بالاستهلال، ولم ير ذلك في المساكنة، وكان يجب أن يكون القضاء موسعا ما دام يسمى هلالا، وهو ليلتان، وقيل: في قوله: لأقضينك في آخر الشهر أنه في عشر أيام منه، والحالف ليقضينه بكرة، أو غدوة، ففيما بينه وبين نصف النهار، وقيل: في بكرة يعجل قبل ذلك. قال ابن القاسم: وإذا لم يقل إلى شعبان، بل ذكر اللام، أو عند، أو لدى، فله ليلة يهل الهلال، أو يومه، وإن قال: إلى انسلاخه، فبالغروب، أو عند انسلاخه، أو في انسلاخه، وإذا انسلخ فليلة ويوم، وفي انقضائه، أو في آخره هو كانسلاخه، وروي عن مالك أن الانسلاخ، والاستهلال، أو رؤيته كل ذلك يوم وليلة. قال ابن القاسم: ولأقضينك في رمضان لا يحنث إلا بغروب الشمس من آخره. قال أشهب: فإن قال: نصفه، فأربعة عشر يوما لاحتمال نقصه، فإن قضى يوم خمسة عشر حنث، وقيل: لا شيء عليه؛ لأنه النصف المعتاد، وقاله أشهب أيضا. قال صاحب (البيان): قال ابن القاسم: الحالف ليقضينه في انسلاخ الهلال، أو إلى استهلال الهلال، أو إلى رؤية الهلال، أو إلى رمضان، أو في آخره، أو في انقضائه، أو إلى دخول الهلال، أو عند آخر الهلال، أو إلى ذهاب الهلال، أو إلى رأس الهلال، أو في رمضان، وهو فيه، أو إلى حلول رمضان حنث في جميع ذلك إذا غربت الشمس، ولو قال: حين محله، أو مجيئه، أو لمجيئه، أو إلى مجيئه، فكذلك، ولو قال: حين ينقضي، أو حين يستهل، أو حين يذهب، أو إذا استهل، أو عند رؤية الهلال، أو إذا ريء الهلال، أو في رؤية الهلال، أو عند قضاء رمضان، أو إذا دخل رمضان، فله يوم وليلة، فهي نحو خمسين صيغة تختلف بحسب اللغة يحنث فيها بغروب الشمس سواء سمى معها آخر شعبان، أو أول رمضان، وإذا لم يذكر (إلى) ما اقتضى الفعل قبل تمام شعبان، فكذلك، أو بعد تمامه، فله يوم وليلة من أول رمضان، ومنها ما هو بين، ومنها ما هو مشكل نحو قولك: لحلول رمضان، فحنث بغروب الشمس بخلاف لمجيئه، ولرؤيته له يوم وليلة قال: وما بينهما فرق، ونحو قوله عند آخر الهلال: يحنث بغروب الشمس، وعند انسلاخ الهلال له يوم وليلة، وجعل ابن كنانة فيما جعل فيه ابن القاسم يوما وليلة من الغروب إلى الضحى حتى تقوم الأسواق، ويشهد الناس على حقوقهم. قال ابن القاسم: الحالف ضحى لا يكلمه يوما يكف عن كلامه إلى مثل ذلك الوقت، ولو قال: أياما أمسك ذلك العدد إلى ذلك الحين، وقيل: يكفي بقية ذلك اليوم، والحالف بالنهار لا يكلمه ليلا، أو بالليل لا يكلمه نهارا لم يكن عليه الإمساك بقية يومه، أو ليلته، ولسحنون في الحالف: لا يكلمه ليلة يكمل على بقية ليلته، وأوله بهذه الليلة، ويلزمه ذلك في اليوم، وقال فيه: لا بد من النهار، والليلة جنوحا إلى القول بأن الليل من الطلوع إلى الطلوع، ومن الغروب إلى الغروب، وهو مخالف لقوله تعالى: (سخرنا عليهم سبع ليال وثمانية أيام)) الحافة: 7) ل متى حلف: لا يكلمه ليلا اجتنب الليل أبدا، أو نهارا اجتنب النهار أبدا إلا أن ينوي التخصيص، وإذا حلف ليفعلن قبل البيات: قال ابن القاسم: هو إلى ثلث الليل الأول؛ لأنه المقصود عادة، وقال أصبغ: إلى غروب الشمس نظرا إلى اللغة، وإن حلف نهارا، فإلى هدو الناس إن حلف عشاء قال: والصواب إلى نصف الليل؛ لأن الرجل لا يكون بائتا في المكان إلا إذا أقام أكثر من نصف الليل، ولذلك يسأل أين تبيت إذا لقي قبل نصف الليل، ويقال له بعد: أين بت؟. التاسع: في (البيان): المحالف: لا يشتري أكثر من عشرة، فاشترى هو، وشركاؤه ثلاثين. قال ابن القاسم: لا يحنث إذا قاسمهم، فحصل له عشرة، فأقل، وإلا حنث، والحالف لا يأكل ديكا لا يحنث بالدجاج، وبالعكس يحنث؛ لأن الديك أخص من الدجاج، أو لا يركب فرسا حنث بالبرذون بخلاف العكس، والحالف لا يأخذ منه درهما، فأخذ ثوبا فيه دراهم لا يعلم بها حنث عند ابن القاسم لوجود الأخذ خلافا لأصبغ، ويأتي فيه قول ثالث من السرقة: إن كان شأنه وضع الدراهم فيه حنث، وإلا فلا، والحالف لا يدخل بيت فلان أبدا، فمات، فلا يدخله حتى يدفن لبقاء صدق الإضافة، والحالف ليقضينه في الربيع، أو في الصيف، أو الخريف، أو الشتاء. قال ابن القاسم: الربيع قبل نزول الشمس الحمل بنصف شهر، وتكمل له ثلاثة أشهر، ثم يبتدئ الصيف، ثم بقية الفصول كذلك، وقال ابن حبيب: الربيع قبل نزول الشمس الحمل بشهر، ثم تترتب الفصول على ذلك لكل فصل ثلاثة أشهر شمسية قال: وهو أعدل من القول الأول؛ لأن الربيع يرجع إلى اعتدال الهواء، وآخر كل فصل شبيه بما يليه في الحر، والبرد. قال ابن القاسم: وإن حلف إلى الحصاد لا يحنث بآخره؛ لأن الغاية تدخل في المغيا، والحالف لا يدخل حتى يأكل زيد، أو لا يبيع حتى يبيع، ففعلا ذلك معا حنث؛ لأن الغاية شأنها التأخير. قال أبو الطاهر: الحالف ليفعلن في العيد، أو إلى العيد قيل: تدخل ليلة العيد؛ لأن الليل سابق النهار، وقيل: له صلاة العيد، والانصراف منه، وفي انتهاء العيد ثلاثة أقوال: بانقضاء يومه، بانقضاء ثلاثة أيام، التفرقة بين الأضحى، فله ثلاثة أيام، وبين الفطر، فينقضي بانقضاء يومه. العاشر: قال صاحب (البيان): إذا حلف عبد ليقضين غريمه إلى أجل، فقضاه قبله من عين سيده، أو سرقة من ماله إن علم السيد قبل الأجل، فأنكر لم يبر بهذا القضاء، وإلا بر، وإن لم يعلم إلا بعد الأجل، فثلاثة أقوال: الحنث لابن القاسم أجاز السيد أم لا، وهو ظاهر (الكتاب)، فيما إذا استحق ما قضى؛ لأنه وإن أجاز فهو بعد الأجل، وعكسه لأشهب لحصول القضاء في الأجل، والتفرقة لابن كنانة بين إجازة السيد، فيبرأ، وإلا فلا، وهذا إنما هو إذا قامت بينة على عين النقد أما إذا لم تقم بينة، أو قامت، وقلنا: النقدان لا يتعينان بر العبد، ورجع السيد على عبده، أو غريمه. الحادي عشر: قال ابن يونس: قال ابن القاسم: الحالف: لأقضينك غدا يوم الجمعة، أو يوم الجمعة غدا، أو ذلك ظنه، وظهر يوم الخميس إن لم يقص فيه حنث؛ لأنه التزم المشار إليه، وإن قال: عند صلاة الظهر، فإلى آخر القامة، فإن قال: قبل أن أصلي، فإلى انصراف الناس من الجامع، وإن لم يصل هو، فإن لم يكن لهم مسجد جماعة، فإلى آخر الوقت. قال ابن حبيب: إذا وهب له لحق قبل الأجل، أو تصدق به عليه، فقبله حنث، ولا ينفعه القضاء قبل الأجل، فإن لم يقبله، وقضاه بر، ولا قيام له بالهبة، أو الصدقة إلا أن لا يظهر منه رد، ولا قبول، وإن ورثه الحالف لا يحنث؛ لأنه مكروه، واستحسن في (العتبية) أن يقضيه الإمام، ثم يرده عليه قال محمد: ولو حلف ليقضينه حقه، أو ليرهننه، فقضاه النصف، ورهن النصف بر، ولو حلف ليقضينه، أو يرهننه داره، فقضاه النصف، ورهن نصف داره حنث؛ لأنه أولا حلف على مسمى القضاء، أو الرهن من غير تقييد، وقد فعل، وثانيا التزم الرهن في جملة الدار بدلا عن القضاء، ولم يقض جملة الحق، ولا فعل بدله، وإذا غاب الطالب، واحتجب عنه السلطان، أو خشي من طلبه فوات الأجل، أو كان بقرية ليس فيها سلطان دفعه إلى عدول، وأشهد على ذلك قاله في (الكتاب): خلافا لسحنون، وقاله مالك أيضا إن لم يجد سلطانا مأمونا، ودفع إلى ثقة من أهل الطالب، أو وكيل ضيعته، أو إلى أخيه بر، ولكنه يضمنه إلى وصوله إلى ربه، وقيل: إن دفع لبعض الناس من غير عذر بر. قال مالك: وإن دفعها إلى الإمام يأكلها عالما بذلك ضمن، وإن لم يعلم فلا، ولا يحلف، قال ابن حبيب: فإن غاب الحالف، وأراد بعض أهله تخليصه من الحنث بالدفع من ماله، أو من مال نفسه لم يبر إلا أن يوصي بذلك قبل الأجل. قال ابن القاسم: وكذلك وكيله على البيع، والشراء لا يبرأ بدفعه إليه إلا أن يأذن له. قال ابن حبيب: وإن جن الحالف قبل الأجل قضى عنه الإمام، وبريء؛ لأنه وكيل المحجور عليهم، فإن لم يفعل حتى مضى الأجل لم يحنث قياسا على عدم انعقاد يمينه، وحنثه أصبغ نظرا إلى انعقاد السبب حالة التكليف، وهو اليمين. قال ابن القاسم: فلو كان الحق عبدا، فاستحق، أو ظهر البيع حراما أو رد بالعيب لا يبر حتى يوفيه، ثم يرده إليه، والحالف: لا يضع، فينظر حنثه مالك؛ لأن النظرة إسقاط في المعنى، وقيل: لا يحنث لاستيفاء جملة حقه قال: وفي (الكتاب): لأقضين لك حقك يوم كذا إلا أن تشاء، فمات الطالب صح تأخير الوارث الكبير، ووصي الصغير إن كان لا دين عليه؛ لأنه حق ينتقل للوارث، وقال ابن القاسم: يجزئه تأخير الغرماء إن أحاط الدين بماله، ولو مات الحالف قبل الأجل لم يحنث، وليس على الورثة يمين، ولا حنث، والحالف: لا يفعل كذا إلا بإذن زيد، فمات زيد لم يجزه إذن ورثته؛ لأنه ليس حقا للميت حتى ينتقل إلى الورثة، ولو علق على إذن الأمير، فمات الأمير، أو عزل ناب إذن الذي يلي بعده، ولا يفعل إلا بإذنه إن كان تحليف الوالي له نظرا، وعدلا. الثاني عشر: قال صاحب (البيان): الحالف ليقضينه صدرا من حقه. قال مالك: الصدر: الثلثان. قال: ولو قيل: النصف لكان وجها، وقال ابن نافع: الثلث. والحالف: لا يبيع عبدا رهنه، فباعه عليه السلطان يجري على الخلاف في حنث الحالف لأفعل فعلا، فقضى عليه السلطان به، وإذا قلنا: بحنثه لم ترجع اليمين عليه: إلا على القول بأن المالك الثاني عبد ثان. المدرك الخامس: كون المحلوف عليه مخالفا للشرع، وفي (الكتاب): الحالف: ليقتلن فلانا، فلا يفعل، ويكفر عن يمينه، أو يطلق، أو يعتق إن حلف بذلك، ورفع إلى الحاكم، فإن اجترأ وفعل قبل النظر في أمره بر؛ لأن حنثه كان تقديرا شرعيا، والمحسوس المناقض للمقدر يبطله؛ لأنه أقوى منه، وإلا فالحانث محققا لا ينقلب بارا، فإن ضرب أجلا، فهو على بر، وطلاق حتى يحل الأجل. قال ابن يونس: المشهور أن الحاكم إنما يطلق عليه، أو يعتق إذا كان الطلاق المحلوف به ثلاثا، أو تتمتها، والعتق معين، أما الواحدة، وغير المعين، فلا فائدة في تعجيل ذلك؛ لأنه لا يتعين الحنث، وروي عن مالك التسوية في العتق. المدرك السادس: العزم على عدم الفعل، وهو على حنثه، وفي (الكتاب): إن قال: أنت طالق واحدة إن لم أتزوج عليك، فعزم على عدم التزوج طلقها، وارتجع، وبر، وقال (ش): لا يحنث بالعزم؛ لأن حنثه مغيا بانقضاء العمر، فلا يحنث قبل ذلك، وجوابه: أنه الآن في عهدة ما حلف عليه، فلا بد في بره من فعله، أو العزم على الفعل كما قلنا في العبادات الموسعة: لا بد من بدل، وهو العزم، وكما أنه في باب العبادات إذا عزم على عدم الفعل في جملة الوقت تتحقق مخالفته للأمر، فكذلك تتحقق مخالفته هاهنا لليمين، ومخالفته اليمين هو الحنث، فيحنث إلا أن يضرب أجلا، فليس له تعجيل الحنث؛ لأنه الآن ليس في عهدة اليمين حتى ينقضي الأجل. قال صاحب (البيان): المشهور في الحالف ليفعلن أنه مغيابا لعمر، وروي عن مالك أنه على التعجيل إلا أن ينوي التأخير، فإن أخر، ولم ينو حنث، وهو قول ابن كنانة. فرع: في (الكتاب): الحالف إذا كان على حنث حيل بينه وبين امرأته؛ لأن سبب تحريمها عليه، وهو الحنث متحقق في الحال، وإنما الشرع جعل له رفع هذا السبب بالبر، ولم يرفعه، وإذا لم يترتب على السبب زوال العصمة، فلا أقل من منع الوطئ. المدرك السابع: تنزيل بعض المحلوف عليه منزلة كله في سياق البر دون الحنث، وله ثلاث صور إحداها: أن يكون المسمى واحدا، ونحو: والله لا أكلت هذا الرغيف، ومع العطف نحو: لا كلمت زيدا، ولا عمرا، أو التثنية، والجمع نحو: لا كلمت الرجلين، أو الرجال، وخالفنا الأئمة في الجميع؛ لأنه حلف على اجتناب مدلول اللفظ، فإذا ترك بعضه، فقد وافق مقتضاه؛ لأنه يكفي في نفي كل مركب نفي أحد أجزائه، وإذا كان موافقا كان بارا، فلا يحنث، وهو متجه للأصحاب مالك: الأول: طريقة الفرض، والبناء، وهي أن تقول في صورة العطف: لو قال: لا كلمت زيدا، ولا عمرا حنث بأحدهما اتفاقا، واتفق أئمة اللغة على أن (لا) في العطف للأكيد، والتأكيد لا يزيد على حكم الأصل شيئا، فكما يحنث مع (لا) يحنث مع عدمها، وإذا ثبت الحكم في هذه الصورة عم جميع الصور؛ لأنه لا قائل بالفرق، ويرد عليه أن الخصم يمكنه فرض الكلام في الحقيقة الواحدة بالرغيف مثلا، وبين حصول موافقة اليمين بتركه لجزئه كما تقدم، ثم نقول: لا قائل بالفرق، فينعكس المسلك بعينه للخصم. الثاني: أن القاعدة الشرعية أن الانتقال من الحل إلى الحرمة يكفي فيه أدنى سبب، ومن الحرمة إلى الحل بالعكس؛ لأن العقد على الأجنبية مباح، فتذهب هذه الإباحة بعقد الأب عليها من غير وطئ، والمبتوتة لا تذهب حرمتها إلا بعقد المحلل، ووطئه، وعقد الأول عليه، والمسلم محرم الدم لا تذهب هذه الحرمة إلا بالردة، ونحوها، فإذا أبيح دمه يحرم بالتوبة، وهي أيسر من الردة، والقتل، والزنا، والحرابة، والأجنبية لا يزول تحريم وطئها إلا بالعقد المتوقف عليها، وعلى الوالي، والزوج، وإباحتها بعد العقد يكفي فيه الطلاق الذي يستقل الزوج به، وذلك كثير في الشرع، وكذلك الخروج إلى الحنث يكفي فيه أدنى سبب، والخروج منه إلى البر يشترط فيه سبب أقوى، وهو فعل الجميع، ويرد عليه: أنكم إن ادعيتموها كلية، فمعناها لاندراج صورة النزاع فيها، ولأن الدعوى الكلية لا تثبت بالمثل الجزئية، وإن ادعيتموها جزئية، فتحتاجون إلى دليل آخر يوجب كون صورة النزاع كذلك، فإن كان القياس، فأين الجامع المناسب لخصوص الحكم السالم عن الفارق؟ أو غير القياس، فبينوه. الثالث: إذا حلف ليفعلن، فهو كالإبراء أو لا يفعل، فهو كالنهي، والنهي عن الشيء نهي عن أجزائه، فيكون فاعل الجزء مخالفا، والمخالف حانث، ويرد عليه: إن هذه القضية بالعكس، بل الأمر بالشيء أمر بأجزائه كإيجاب أربع ركعات، والنهي عن الشيء ليس نهياً عن أجزائه كالنهي عن خمس ركعات، فعم النهي عن الشيء نهي عن جزء، فإنه كالنهي عن مفهوم الخنزير، وهو نهي عن الخنزير الطويل، والقصير، وهذا، وذلك، والأمر بالشيء ليس أمرا بجزئياته كالأمر بإعتاق رقبة ليس أمرا بإعتاق هذه، وتلك، فيثبت ما بين حكم الأجزاء، والجزئيات، فلا يغتر بذلك. واعلم أنه لا فرق عندنا بين جزء المحلوف عليه، وجزء الشرط في أن كل واحد منهما يقوم مقام كله مع أنه قد وقع في (الكتاب) مسألتان متناقضتان في كتاب (العتق) إحداهما: قوله لأمته: لئن دخلت هاتين الدارين، فأنت حرة، فدخلت إحداهما عتقت، والأخرى قوله لأمتيه، أو زوجتيه إن دخلتما، فأنتما حرتان، أو طالقتان فدخلت إحداهما لم تعتق واحدة منهما، وفي الصورتين وجد جزء الشرط مع أن أبا الطاهر نقل في الأخيرة ثلاثة أقوال: يعتقان، لا يعتقان، تعتق الداخلة فقط، وفي (الجلاب): قول بعدم التحنيث تحرير المحلوف عليه كقول الأئمة، وإنما الإشكال على ظاهر (المدونة). قال صاحب (البيان): القائل: إن رزقت ثلاثة دنانير صمت ثلاثة أيام، فرزق اثنين، فصام ثلاثة أيام، ثم رزق الثالث قال ابن القاسم: يستأنف الصيام؛ لأن الشرط الآن تحقق، وقول القائل: إن قضى الله عني ثلاثة دنانير صمت ثلاثة أيام، فقضى الله عنه نصفها، وصام ما ذكر، ثم قضى الباقي أجزأه ما تقدم، وكان يضعفه قال: والقياس الأول إلا أنه لاحظ خفة ثقل الدين، وهو المقصود، وقيل: يصوم بقدر ما قضى عليه، فتحصل ثلاثة أقوال، وهذا أيضا على خلاف القاعدة. قال أبو الطاهر: الحالف بطلاق امرأته إن وضعت ما في بطنها، فوضعت ولدا، وبقي آخر يحنث على المشهور، وقيل: لا يحنث، وإن علق الطلاق على الوطء حنث بمغيب الحشفة، وقيل: على الإنزال، وإن ألحق باليمين غير المحلوف عليه قصدا للإلحاق لزم في اليمين، وإلا فلا، وهذا يمشي على أن القاعدة بخلاف ما أشار إليه صاحب (البيان) إلا أن يكون ذلك لخصوص عدد الثلاث، والله تعالى أعلم، وفي (البيان): إن حلف: لا يشهد حياته، ولا مماته، فشهد جنازة ابنه حنث قال: لأن الحنث يقع بأدنى الرجوع. تفريع: قال اللخمي: قال محمد: إذا قال: لا أكلت هذا الرغيف كله حنث ببعضه، ولا ينفعه قوله: كله؛ لأنه تأكيد، فلا يزيد على حكم الأصل، وخالف ابن سحنون، وقال أبو الطاهر: بل التصريح بالكل يرفع الخلاف كما أن التصريح بالبعض يرفع الخلاف. وفي (الكتاب): الحالف: لا أجامعكن حنث بوطئ واحدة. قال صاحب (البيان): الحالف: لا يتزوج يحنث بالعقد دون الدخول، وإذا حلف لا يركب دابة فلان إن استوى بجسده عليها يحنث اتفاقا، وإن لم يعقد على السرج، وإن عمل رجله في الركاب واستقل وهو متعلق، ولم يضع رجله من الجهة الأخرى لا يحنث اتفاقاً، وإن وضع رجله من الجهة الأخرى، ولم يستو بجسده، فقولان: الحنث، ونفيه كالقولين فيما إذا حلف لا يدخل الدار، فدخل برجله. (فرع): قال: ولو قال: أنت طالق إن أعطيتني الوديعة، فأعطته عشرة، فادعى أن الوديعة عشرون طلقت في القضاء دون الفتياء؛ لأن غرضه الذي طلق لأجله لم يتم كمن قال: أنت طالق إن أعطيتني عشرة، فأعطته خمسة. المدرك الثامن: تعارض المقاصد، والوضع اللغوي، والشرعي، وإنها تغلب، ففي (الكتاب): من حلف لا يفعل شيئا، أو زمانا، أو دهرا، فذلك كله سنة، وقال (ش): يحمل على العرف، فإن فقد، فاللغة، وقال (ح)، وابن حنبل: الحين ستة أشهر لقوله تعالى: (تؤتي أكلها كل حين) (إبراهيم: 45) أي في كل ستة أشهر، وليس كما قالاه، بل النخلة تحمل، ويكمل حملها في سبعة أشهر، وهو أحد الوجوه التي شبهت فيها الإنسان في قوله عليه السلام: (أكرموا عمتكم النخلة)، وروى ابن وهب عن مالك: تردده في الدهر هل هو سنة أم لا، وروي عن ابن عباس أنه سنة لقوله تعالى: (تؤتي أكلها كل حين) إشارة إلى أن التمرة إذا حملت في وقت لا تحمل إلا في ذلك الوقت، وهو سنة. قال اللخمي: هو مدة فيها طول دون السنة، فإن عرف، فقال: الدهر، أو العصر قيل سنة الأكثر في الزمان، والدهر مدة الدنيا. قاعدة: اللفظ إنما يقال له شرعي إذا غلب استعماله عليه يصير الفهم سابقا إلى ذلك المعنى دون غيره أما إذا استعمل اللفظ الذي له مسمى عام في بعض أفراده مرة واحدة لا يقال له شرعي، ولا عرفي، بل ذلك شأن استعمال اللغة، فنقل لفظ المعنى العام في أفراد مسماه، والحين اسم لجزء ما من الزمان، وإن قل يصدق على القليل، والكثير، واستعماله في بعض الصور في بعض أفراده لا يصيره منقولا لذلك الفرد. فالمتجه ما قاله (ش)، وأما مع التعريف، فيتجه ما قاله الداودي؛ لأن اللام للعموم قاله اللخمي، وإن حلف لا يكلمه أياما، أو شهورا، أو سنين، فثلاثة من كل صنف سماه إلا أن يريد التطويل، فلا بد من الطول، فإن عرف باللام، فقيل: سنة لقوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) (التوبة: 36)، وقيل: الأبد، وعلى القول يحمل الشهور على شهور السنة تحمل الأيام على الأسبوع، وإن حلف: لا يفعل شيئا في هذه السنة، وقد مضى نصفها. قال مالك: يأتنف سنة إلا أن تكون له نية قال: وفيه نظر؛ لأن الإشارة بهذه تقتضي التخصيص، وفي (الجواهر): الحالف ليهجرنه: فثلاثة أيام؛ لأنها نهاية الهجران الشرعي، وفي كتاب محمد: شهر؛ لأنه محدود، وكثيرا ما تقع الأيمان عليه، فهو معتاد، ولو قال: لأطيلن هجرانه قال محمد: سنة، وقيل: شهر قال: أبو الحسن إن كانا صديقين، فالشهر طول، وإلا فقليل. المدرك التاسع: تعارض المقصود من الشيء عرفا، أو لغة، وفي (الكتاب): الحالف: لا يأكل من هذه الحنطة، أو هذه الحنطة حنث بالخبز، والسويق؛ لأنها كذلك تؤكل، وإن حلف لا يأكل من هذا الطلع حنث ببسره، ورطبه، وتمره إلا أن ينوي الطلع نفسه، أو من هذا اللبن حنث بزبده إلا أن تكون له نية، وقال (ح): لا يحنث في الجميع؛ لانتقال الأسماء. لنا: أن صيغة (من) للتبعيض لغة، والزبد بعض اللبن، والتمر فيه أجزاء الطلع، ولذلك أجمعنا على الحالف: لا يأكل من هذا الرغيف أنه يحنث بلبابه منه، والحالف: لا يأكل بسر هذه النخلة، أو من بسرها لا يحنث بالبلح؛ لأنه لا يكون بلحا، أو من هذه الحنطة، أو من هذا الطعام يحنث بما اشترى بثمنها من طعام؛ لأنه يصدق عليه أنه منها إلا أن يكون الشيء فيهما من الرداءة. والحالف: لا يشرب هذا السويق، فأكله يحنث إلا أن ينوي الشرب، والحالف: لا يأكل سمنا، فيأكل سويقا لت بسمن يحنث وجد طعمه، أو ريحه أم لا؛ لأنه لو أريد استخراجه بالماء الحار لخرج، والحالف: لا يأكل خلا، فأكل مرقا طبخ بخل؛ لأنه لا يمكن استخراجه إلا أن ينوي ما طبخ به، وقاله (ش) فيهما. قال صاحب (تهذيب الطالب): الحالف: لا يأكل عسلا يحنث بعسل القصب، وبالعسل مطبوخا، وبالفالوذج، وبالخبيص، وطعام فيه عسل، ويحتمل على قول أشهب أن لا يحنث بعسل القصب؛ لأنه ليس العادة، واعلم أن هذه المسألة تشكل على مسألة الخل في (الكتاب) قال: ولم يفرق ابن القاسم بين وجود طعم السمن، وعدمه، وفرق ابن ميسر قال: ولو أن الدقيق، والخبز لت بخل حنث عندي؛ لأن اللت غير مستهلك، ووافق أشهب ابن القاسم في الخل، واختلفا في السمن، وحنثه سحنون في الخل، وفي (الكتاب): الحالف: لا يأكل لحما يحنث بالشحم خلافا لـ (ش)، ولو عكس لا يحنث باللحم؛ لأن الله تعالى حرم لحم الخنزير، فحرم شحمه. وحرم على بني إسرائيل الشحم، ولم يحرم اللحم، ويحنث بلحم الحوت، أو لا يأكل رءوسا، أو بيضا حنث برءوس السمك، وبيضها خلافا لـ (ش)؛ لأن لفظ الرءوس، والبيض لم يختص في العرف ببعض أنواعها، بل من قال: رأيت رأسا يقال له: رأس أي شيء، ويحسن جوابه بما ذكرناه، وإنما اختص الأكل ببعضها، وقد تقدم أن العرف الفعلي لا عبرة به، وإنما المعتبر القولي. قال ابن يونس: قال محمد: لا يحنث في ثمن الحنطة، ولا فيما أشبهه، واستحسن أشهب في الطلع عدم الحنث بالبسر، أو الرطب لبعد ما بينها في الطعم، والاسم، والمنفعة كالخل مع العنب، ولم ير ابن القاسم الحنث بما يخرج من المحلوف عليه إلا في خمسة أشياء: في الشحم من اللحم، والنبيذ من التمر، والزبيب، والعصير من العنب، والمرق من اللحم، والخبز من القمح، وقد جمعها الشاعر بقوله: أمراق لحم وخبز قمح *** نبيذ تمر مع الزبيب وشحم لحم وعصر كرم *** يكون حنثا على المصيب والاقتصار على هذه الخمسة يعسر تقريره من جهة النظر، وقيل: لا يحنث بالخبز من القمح لبعده إلا أن يقول: من هذا القمح، أو من هذا الدقيق، واستحسنه محمد، ولا يحنث ابن القاسم الحالف: لا يأكل لبنا، أو اللبن بالزبد، أو السمن، ولا يأكل رطبا بالتمر، أو لا يأكل عسلا بالرب إلا أن يأتي بصيغة (من)، وعمم ابن وهب الحنث في ذلك قياسا، وفرق ابن حبيب بين أن يشار إليه بـ (هذا)، فيحنث، أو ينكر، فلا يحنث؛ لأن الإشارة تتناول الخصوص بجميع أجزائه، والمتولد بعد ذلك فيه من هذه الأجزاء. قال سحنون: الحالف: لا يأكل زعفرانا يحنث بالطعام المزعفر؛ لأنه لا يؤكل إلا كذلك. قال ابن القاسم: الحالف على اللحم يحنث بالكرش، والرأس، والمعاء، والدماغ، وغيرها خلافا لـ (ش)، وابن حنبل، فهما يلاحظان العرف، وهو يلاحظ اللغة، والحالف بأحدهما لا يحنث بالشحم؛ لأنها لا تكون شحما، والحالف على اللحم يحنث بالقديد دون العكس، وقال أشهب: الحالف على اللحم، والرءوس لا يحنث إلا بلحم الأنعام، ورءوسها كقول (ش)؛ لأنها المقصودة بالأثمان عادة، فهو عرف قولي في خصوص ألفاظ الأيمان، والعرف قد يكون في المركبات كما يكون في الألفاظ المفردات كما تقدم، ووافق ابن القاسم في البيض، والفرق بعد ما بين الأنعام، والطير، وغيره، وتقارب بيض الدجاج، والطير، وقال ابن حبيب: بيض الطير دون الحوت. قال أبو محمد: والحالف: لا يأكل إداما يحنث بالإدام عرفا، وقاله ابن حنبل، وليس الملح منه. قال صاحب (البيان): وحنثه أشهب بالملح؛ لأنه عادة الضعفاء (بمصر)، والمعول في ذلك على العادة كالتمر، والزيتون، ونحوه، ووافقنا (ش)، وخصصه (ح) بما يصنع فيه دون اللحم، والشواء؛ لقوله عليه السلام: (نعم الإدام الخل) و(ائتدموا بالزيت، فإنه من شجرة مباركة) والجواب عنه أنه مفهوم لقب لا حجة فيه سلمناه، ولكنه معارض بقوله عليه السلام: (اللحم سيد إدام الدنيا، والآخرة) ولأن الإدام معناه الائتلاف؛ لأنه يؤلف الخبز مع النفس، ومنه سمي آدم عليه السلام؛ لأنه ألف من أجزاء الأرض، وقوله عليه السلام: (هلا نظرت إليها، فإنه أولى أن يؤدم بينكما) أي تأتلفان. فرع: وقال: والحالف: لا يأكل خبزا، وإداما لا يحنث بأحدهما عند أشهب؛ لأن العادة الجمع خلاف ما في (المدونة). قال ابن يونس: قال محمد: الحالف: لا يأكل فاكهة يحنث برطبها، ويابسها من التمر، والعنب، والرمان، والقثاء، والبطيخ، والقصب، والفول، والحمص، والجلبان. قال ابن حبيب: والحالف على الخبز: يحنث بالكعك دون العكس؛ لأن الكعك خبز وزيادة، ومن كتاب محمد، والحالف: لا يأكل غنما يحنث بالضأن، والمعز، والحالف على أحدهما لا يحنث بالآخر، (والحالف على الدجاج يحنث بالديك، وعلى أحدهما لا يحنث بالآخر)، والحالف: لا يأكل كباشا يحنث بكبار النعاج، وصغارها لدخولها في الاسم، ولو قال: كبشا، ولم يقل كباشا لم يحنث بصغار الذكور، ولا الإناث. قال ابن يونس: وكذلك الكباش لا يحنث بها عندنا في الصغار، ولا الإناث الكبار؛ لأنه العرف، ولاحظ محمد اللغة، قال محمد: والحالف: لا يأكل نعجة، أو نعاجا لا يحنث بصغار الذكور، والإناث، وكبار الذكور، والحالف: لا يأكل خروفا لا يحنث بالكبش، والحالف: لا يأكل تيسا، أو تيوسا يحنث بالعتود دون العكس. قال صاحب (التلخيص): الحالف: لا يأكل من مال فلان، أو من طعامه، أو لا ينتفع بشيء من ماله، فانتفع بعد موته قبل جمع ماله، ودفنه، فثلاثة أقوال: لا يحنث إلا أن يكون عليه دين، أو وصايا، ولا يحنث إلا أن يكون عليه دين دون الوصايا؛ لأن الدين يقضي على ملكه، والوصايا لأربابها، ولا يحنث، وإن أحاط الدين بماله؛ لانقطاع ملكه بموته، والحالف: لا ينفعه ما عاش، أو لا يدخل عليه ما عاش، فدخل عليه ميتا، أو كفنه، فقولان في (الكتاب). والحالف: لا يكلمه، فيؤم قوما فيهم، فسلم من الصلاة عليهم، أو صلى خلفه عالما به، فرد عليه سلامه من الصلاة لم يحنث؛ لأنه ليس كلاما عادة، ولو سلم على جماعة هو فيهم حنث علم به أم لا إلا أن يحاشيه، ولو سلم عليه، وهو لا يعرفه ليلا حنث؛ لأن الجهل ليس عذرا في الحنث، ولو كتب إليه، أو أرسل إليه حنث خلافا لـ (ش)، وابن حنبل إلا أن ينوي المشافهة؛ لأن المقصود من الكلام إنما ما هو يدل على المقاصد، والحروف الكتابية في ذلك كالنطقية، ثم رجع فقال: لا ينوي في الكتاب، ويحنث إلا أن يرجع الكتاب قبل وصوله إليه. قال ابن يونس: قال محمد: إن سلم اثنتين، فأسمعه الثانية حنث قال ابن ميسر: لا يحنث، وإن أرتج على الحالف فلقنه المحلوف عليه لم يحنث بخلاف العكس، وأما إذا أم الحالف فرد عليه المحلوف. قال ابن القاسم وأشهب: إن سمع رده حنث. قال ابن القاسم: ولو مر بالمحلوف نائما، فقال له: الصلاة يا نائم، فرفع رأسه فعرفه حنث، وكذلك إن لم يسمعه لشدة النوم كالأصم، وكذلك لو كلمه وهو مشغول بكلام رجل ولم يسمعه؛ لأنه يصدق أنه كلمه، وقال أصبغ: إن تيقن نومه، ولم ينتبه لكلامه لا يحنث كالميت والبعيد، ولو كلم غيره يظنه إياه قاصدا للحنث لم يحنث؛ لأن القصد إنما يوثر في الحنث إذا كان على حنث، وهو هاهنا على بر، ولو كلمه يظنه غيره حنث؛ لأن الجهل ليس عذرا. قال مالك: ولو حلف لا يكلمه إلا ناسيا قبل قوله في النسيان، ولو قامت البينة؛ لأن ذلك لا يعلم إلا من جهته. قال ابن القاسم: والحالف: لا يكلمه إلا بالإشارة إليه؛ لأن الإشارة في الصلاة ليست كلاما بخلاف الكتابة؛ لأنها حروف كالكلام، وحروفها دالة على حروف القول، فيتنزل أحدهما منزلة الآخر، وقال غيره يحنث لقوله تعالى: (ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) (آل عمران: 41) الأصل في الاستثناء الاتصال، وقال مالك في الرسول: لا شيء عليه، وقال أشهب: لا يحنث فيه ولا في الكتابة إلا أن يسمعه الكلام الذي أرسل به الرسول؛ لأنه لو حلف ليكلمنه لم يبر بالكتابة. قال أشهب: ولو رجع الكتاب بعد قراءته بقلبه دون لسانه لم يحنث؛ لأن الحالف لا يقرأ جهرا لا يحنث بقراءة قلبه، ولو كتب المحلوف إلى الحالف فقرأ كتابه لم يحنث عند أشهب، واختلف قول ابن القاسم فيه، ومن كتاب ابن حبيب لو أمر الحالف من يكتب فكتب، ولم يقرأه على الحالف ولا قرأه الحالف لم يحنث، ولو قرأه الحالف أو قرئ عليه حنث إذا قرأه المحلوف عليه، أو عنوانه، وإلا فلا قال الله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا) (الشورى: 51) جعل ذلك كلاما، وفي (الجواهر): في قبول النية في الكتاب والرسول أقوال: ثالثها: تقبل في الرسول دون الكتاب، وإن لم يقرأ المحلوف الكتاب، ففي الحنث قولان. فرع: قال: لو انتقل المحلوف عليه إلى ما ليس معدا له كالحالف: لا يأكل طعاما، فيفسد (بأكله)، فقيل: يحنث؛ لأنه أكله، وقيل: لا يحنث؛ لأنه لم يأكل الطعام المعتاد، وإنما انتقل إلا ما هو معد له، فإن نطق بـ (من) نحو: لا أكلت من هذا، فإن قرب تغيره، فالمذهب كله على الحنث، وإن بعد كانتقال الطلع إلى البسر، والرطب، فالمشهور الحنث، ولا يحنث بالمتولد الذي ليس جزأ كالحلف على الشاة، فيأكل من لبنها إلا أن يريد ترك الانتفاع مطلقا، وفي تحنيثه بولدها خلاف، فإن لم يذكر لفظة (من) ونكر، فالمذهب عدم الحنث، وإلا حنث، وإن قرب التغير جدا، والغالب أنه لا يستعمل إلا كذلك، فلم يره ابن القاسم إلا في الخمسة المتقدمة، والحالف: لا يدخل عليه بيتا، فدخل المحلوف عليه على الحالف بيتا، أشار في (الكتاب) إلى عدم الحنث، وقيل: يحنث، ولا يحنث بدخوله عليه المسجد اتفاقا؛ لبعد لفظ البيت عن المسجد إلا بإضافته إلى الله تعالى، وأحنثوه بالحمام، والفرق: أن الحمام لا يلزم دخوله بخلاف المسجد، وخالف اللخمي في الحمام، والحالف: لينتقلن من دار. قال صاحب (البيان): لا يعود عند ابن القاسم إلا بعد شهر، ولم ير عليه حنثا إن رجع بعد خمسة عشر يوما. قال صاحب (البيان): لا يعود عند ابن القاسم إلا بعد شهر؛ لأن الشهر معتبر في تقديم الزكاة، وانتزاع مال المعتق إلى أجل قبل أجله بشهر، (والحالف: ليطيلن الهجران برّ بشهر) ولم ير عليه حنثا إن رجع بعد خمسة عشر يوما. قال ابن يونس: قال عبد الملك: لا أحب له الانتقال بنية مؤقتة. قال عبد الملك: والحالف: ليخرجن فلانا من داره له رده بعد شهر، وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِالدَّارِ، فحلف: لينتقلن، فتأخر ثلاثة أيام في الطلب، ولم يجد قال محمد: لا شيء عليه، والحالف: ليخرجن من المدينة، ولم ينو إلى بلد معين خرج إلى ما تقصر فيه الصلاة، فيقيم فيه شهرا. قال مالك: وقيل: إلى موضع لا يجب فيه إتيان الجمعة، فيقيم فيه ما قل، أو كثر، ويرجع، وفي (الكتاب): الحالف: لا يسكن هذه الدار، أو دار فلان هذه، فباعها، فسكنها في غير ملكه حنث لأجل الإشارة إلا أن ينوي ما دامت في ملكه، ولو قال: دار فلان، لم يحنث لزوال الإضافة. قال ابن يونس: قال ابن القاسم: الحالف: لا يسكن دار فلان حنث بدار له فيها شرك لصدق الإضافة، وهو يصدق بأدنى سبب كقول أحد حاملي الخشبة: شل طرفك. قال أشهب: الحالف: لا يدخل منزل فلان، فدخل الدار دون البيت إن كانت الدار لا تدخل إلا بإذن، ومن سرق منها قطع، حنث، وقال غيره: لا يحنث. قال ابن حبيب: إذا حلف أن لا يدخل دار فلان حنث بحانوته، وقريته، وخبائه، وكل موضع له فيه أهل، أو متا، وإن لم يملكه؛ لأن الدار من الدائرة تعمل حول البيت خشية السيل، فسميت الدار دارا لذلك، وخالف أصبغ في الحانوت، والخباء، وفي (الكتاب): الحالف: لا يلبس ثوبا غزلته فلانة حنث بما غزلته مع غيرها، أو حلف لا يسكن بيتا، فسكن بيت شعر، وهو بدوي - أو حضري- حنث لصدق الاسم عليه أو لا يكسوها هذين الثوبين ونيته: مجتمعين، فكساهما أحدها حنث؛ لأنه جزء المحلوف عليه، أو لا يدخل هذه الدار، فصارت طريقا، ودخلها لم يحنث، فإن بنيت، ودخلها حنث؛ لأنه يقال: هذه دار فلان عمرت، فالمشار إليه عاد، أو لا يدخل من باب هذه الدار، أو من هذا الباب فغير أو نقل، حنث بالدخول إلا أن يكون الباب دون الدار. قال ابن يونس: إذا بنيت الدار بعد هدمها مسجدا لم يحنث، وقال مالك: الحالف: لا خرجت امرأته من الدار، فهدمها سيل، أو أخرجها ملك الدار، فلا شيء عليه إلا في الدار الثانية، أو يرجع إلى الأولى. قال سحنون: وكذلك لو أخرجها السلطان ليحلفها في حق لم يحنث، ولو انتقل الزوج باختياره، فاليمين باقية حيث انتقل، فإن المقصود صونها، وقال مالك أيضا: الحالف: لا تخرج من باب بيتها حتى يقدم، فنزلت بموضعها فتنة فخافت، فخرجت من دبر بيتها يحنث، وفي (الكتاب): الحالف: لا يأكل طعاما، أو شرابا، فذاقه، ولم يصل إلى جوفه لم يحنث؛ لأن المقصود التغذي، ولم يحصل، والحالف: لا يساكنه في دار، فسكنا في مقصورتين في دار، أو كانا قبل الحلف كذلك حنث، وإن كانا في منزل فلا، والحالف: لا يساكنه في دار، فقسمت، واستقل كل واحد بنصفها كرهه مالك دون ابن القاسم. قال ابن يونس: ولو كانا من أهل العمود، فحلف لا يجاوره، أو لينتقلن عنه، فانتقل إلى قرية، والمضرب واحد حنث إلا أن ينتقل بيته. قال أبو محمد: لا بد من انقطاع خلطة الصبيان، والعيال، وتكون رحلته كرحلة أهل العمود. قال مالك: حيث لا تلتقي أغنامهم في الرعي. قال التونسي: لا يحنث بالزيارة، ولو أقام أياما، أو مرضه. قال مالك: (والزيارة تختلف كما في الحضري، والقروي، وقال أشهب: ليست الزيارة مساكنة، وإن طالت إذا لم) يكن القصد السكنى، وقال أيضا: إذا أكثر المبيت والمنام في غير الحضر حنث، ومن كتاب ابن المواز: الحالف: لا يجاوره في أمهات القرى يحنث بالطريق التي تجمعهما في الدخول، والخروج، والمجتمع، ولا يحنث. قال أبو الطاهر: ولو رفع مالا فنسيه فحلف لزوجته: لقد أخذته، ثم وجده حيث دفنه لا يحنث؛ لأن المقصود إن كان تلف فأنت أخذته، والحالف: ليس معي أوزن من هذا الدرهم، فوجد معه وزنه لا يحنث. فرع: قال صاحب (البيان): إذا حلف لا يتسرى على امرأته، فذهب مالك، وأكثر أصحابه أن التسري الوطء، وقيل: الإيلاد، وقيل: الاتخاذ للوطء فعلى القول بأنه الوطء لا تجوز له إلا المباشرة من التقبيل، ونحوه، وقيل: يجوز له الوطء ولا ينزل، وقيل: وطأة كاملة ولا يحنث إلا بتمامها. المدرك العاشر: النظر إلى التمادي على الفعل هل يجعل كابتدائه، ففي (الكتاب): الحالف: لا يسكن هذه الدار وهو فيها، يخرج مكانه، ولو في جوف الليل، فإن أقام إلى الصباح حنث (إلا أن ينويه، فإن وجد منزلا لا يوافقه، أو غاليا انتقل إليه حتى يجد سواه، وإلا حنث) وقال ابن حنبل: ينتقل بحسب العادة، ويرتحل بولده، وأهله وجميع متاعه إلا الوتد، وما لا يعبأ به، فإن بقي متاعه حنث، وقاله ابن حنبل خلافا لـ (ش) في قوله: يكفي نقله بنفسه. لنا: أنه كل يوم ينتقل بنفسه من غير يمين، فلا بد لليمين من غرض زائد على المعتاد، وقال ابن يونس: قال أشهب: لا يحنث بإقامته يوما وليلة، ولا يترك قشه، فإنه لا يسمى مساكنة، وقد قال ابن القاسم في الحالف: ليقضينه حقه في الهلال: له يوم وليلة، ولو ابتدأ في النقلة، وأقام أياما لكثرة عياله لا شيء عليه، ولو ترك متاعه إعراضا عنه لصاحب الدار أو غيره لم يحنث، وروي عنه: إن ترك الوتد ونحوه إعراضا عنه لم يحنث، أو نسيانا حنث، وفي (الجواهر): الحالف على ركوب دابة، أو لباس ثوب، وهو راكب، أو لابس ينزع وينزل، فإن تمادى كان كابتداء الفعل، قاله في (الكتاب)، وقال الشافعي: ولو حلف لا يدخل دارا، وهو فيها. قال ابن القاسم و(ش): لا شيء عليه إن لم يخرج خلافا لأشهب، والفرق: أنه يغدو راكبا، ولابسا، ولا يغدو راجلا، ولو قال للحائض: إذا حضت، أو الطاهر إذا طهرت، أو الحامل إذا حملت، فأنت طالق. قال سحنون: هو على وجود هذه في المستقبل؛ لأنه لا يقال: حاضت، أو طهرت، أو حملت اليوم، بل منذ مدة. المدرك الحادي عشر: ما يعد عذرا، وهو الإكراه، والنسيان، والجهل، وفي (الجواهر): الحالف: لا يفعل شيئا يحنث بوجود الفعل منه سهوا، أو عمدا، أو خطأ، أو نسيانا، أو جهلا، ولا يحنث مكرها، ووافقنا الأئمة على الإكراه على اليمين، وخالفنا (ح) في الإكراه على الفعل، ووافقنا في النسيان، والجهل، وخالفنا (ش) في النسيان، والجهل. (تمهيد): اللفظ لغة لا يختص بحالة، فقد دلت العادة على أن الناس يستنون هذه الحالة حتى يكون معنى قوله: لا فعلت كذا ما لم أنس، أو أكره، أو أجهل، ولا يقصدون ذلك، فنحن لم يثبت عندنا قصدهم، فاعتبرنا اللفظ، واستثنينا الإكراه للحديث، وهو قوله عليه السلام: (لا طلاق في إغلاق) أي في إكراه، وإذا تمهد عذرا في الطلاق تمهد في غيره بجامع عدم الإيثار للفعل، و(ش) يرى أن هذه الحالات مستثنيات في عرف الناس، وهو غير ظاهر، وفي (الكتاب): الحالف: لا مال عنده، وورث مالا لا يعلم به حانث، والحالف: لا يدخل دارا لا يحنث بدخولها مكرها، وقال ابن يونس: ولو هجمت به دابته كرها لم يحنث، وإن قال لزوجته: إن دخلت هذه الدار، فأنت طالق، فأكرهها غيره على الدخول لم يحنث، وأما بإكراهه هو، فقال سحنون: أخاف أن يكون ذلك رضا بالحنث، فيحنث. قال مالك: والمكره على اليمين لا يعتبر يمينه إلا أن يكون في حق عليه، وهو يعلم ذلك، وقال الأئمة: والحالف بالطلاق لنجاة غيره من القتل بغير حق يلزمه الطلاق قاله محمد خلافا لأشهب، والحالف: ليس له مال. قال محمد: إن تصدق عليه، وهو لا يعلم، فلم يقبل، فلا شيء عليه، فإن قبل حنث، وقيل: لا يحنث نظرا لتأخير كمال الملك بعد اليمين. قال صاحب (تهذيب الطالب): الحالف: ليركبن الدابة، فتسرق يحنث عند ابن القاسم خلافا لأشهب؛ لأن الفعل ممكن، وإنما منعه السارق، فإن ماتت بر لتعذر الفعل، ومنع الغاصب، والمستحق كالسارق، وكذلك لو حلف ليضربن عبده، فكاتبه، أو ليبيعها، فوجدها حاملا؛ لأن المانع شرعي، والفعل ممكن، وخالفه سحنون، والحالف: ليطأنها، فوجدها حائضا قيل: يحنث، وقيل: لا شيء عليه، وقيل: إن وطئ بر، وقال ابن القاسم: لا يبر، وكذلك لو وجدها صائمة في رمضان، وقال أصبغ: إذا نذرت يوم الاثنين، فصادف يوم الصيام مرض. أفطرت، ولا شيء عليها، وقال أشهب: الحالف: ليصومن رمضان، وشوال إن صام يوم الفطر بر، وإلا فلا. قاعدة: المانع متى كان عقليا اعتبر قولا واحدا، أو عاديا، أو شرعيا، فقولان، والمدرك أن قول الحالف: لأفعلن هل يعم الأحوال، أو يخصص بحالة التمكن؛ لأنه المقصود للعقلاء، فلا يحنث، أو يفرق بين المتعذر عقلا، وغيره محافظة على ظاهر اللفظ؟ وهو المشهور. قال أبو الطاهر: المشهور أن الخوف على الغير كالخوف على النفس، وفي الإكراه قولان، ومذهب مالك، وأصحابه تحنيث الناسي، والمتأخرون من محققي الأشياخ عدم تحنيثه، وراموا تخريجه مما في المستخرجة في الحالف بالطلاق ليصومن يوما سماه، فأفطره ناسيا لا شيء عليه قال: ويمكن حمله على نفي القضاء دون الحنث، وهو أحد القولين في المفطر في النذور، وفيمن حلف لا يبايع إنسانا، فبايع من هو من سببه، أو ممن اشتراه المحلوف عليه، ولم يعلم،لا حنث عليه، ويمكن حمله على مراعاة ظاهر اللفظ، فلا يحنث بمبايعة غيره؛ لأن النسيان عذر. المدرك الثاني عشر: تنزيل الوكيل منزلة الموكل تحقيقا للنيابة، وقاله ابن حنبل خلافا لـ (ش)، قال صاحب (الخصال): كل من حلف لا يفعل شيئا فأمره غيره ففعله حنث إلا في مثل الحالف: ليضربن عبده إلا أن ينوي النيابة في ضربه، وفي (الكتاب): الحالف: لا يشتري عبدا، فيأمر غيره، فيشتريه له يحنث، والحالف: لا يضرب عبده، فيأمر غيره، فيضربه يحنث؛ لأن المقصود عدم إيلامه إلا أن تكون له نية، والحالف: لا يبيع لفلان شيئا، فيدفع فلان ثوبا لرجل، فيدفعه الرجل للحالف، فيبيعه، ولم يعلم، فإن لم يكن الرجل صديقا ملاطفا، أو من عماله، أو ناحيته، وإلا حنث، وكذلك الحالف: لا يبيع منه، فيبيع ممن يشتري له، ولم يعلم، فإن لم يكن المشتري من ناحيته، ولا من سببه لم يحنث، وإلا حنث، ولو أخبره عند البيع، فحلفه، فقال له: أنا أبتاع لنفسي، ثم تبين بعد البيع أن ابتياعه للمحلوف عليه حنث إن كان المشتري من ناحية فلان. قال ابن يونس: قال التونسي: لو قال: أبيعك بشرط أنك إن ابتعت لفلان، فلا بيع بيني وبينك، فتبين الشرط بطل البيع، ولا يحنث، ولو اشترى لنفسه، ثم ولى للمحلوف عليه، فيحتمل الحنث، ونفيه، فقد قيل في الحالف: لا يشتري لامرأته ثوبا، فاشتراه لنفسه، ثم ولاه لها استثقله مالك، وقال ابن القاسم: لا يحنث. قال صاحب (البيان): الحالف بعتق عبده لا يبيعه، فرهنه، فباعه عليه السلطان في الرهن لا يحنث؛ لأنه زمان وقوع العتق لا مال له غيره، والدين مقدم على العتق قال: والمعلوم لمالك، وابن القاسم وقوع العتق عليه ببيع السلطان، فإن اشتراه بعد ذلك رجعت عليه اليمين، ولو كان حلفه بغير عتق العبد لجرى في حنثه خلاف. المدرك الثالث عشر: تعذر المحلوف عليه قبل الأجل إما عقلا، أو شرعا، أو بآدمي، وفي (الكتاب): الحالف: ليأكلن هذا الطعام، أو ليركبن هذه الدابة، أو ليضربن عبده هذا إلى أجل، فتعذر ذلك بموت بر بخلاف السرقة، إلا أن ينوي أن لا يسرق؛ لأن الفعل ممكن في السرقة بخلاف الموت. قال ابن يونس: قال محمد: لا يحنث في موت، ولا سرقة لضربه أجلا، فهو علي بر، ولو لم يضرب أجلا لحنث في الموت، والسرقة إن أمكنه الفعل قبل ذلك. قال محمد: وإن حلف ليقطعن خشبة غدا، فوجدها مقطوعة من ساعته لا يحنث، ولو أمكنه القطع، فتركه حنث، وفي (الكتاب): الحالف: ليذبحن حمامة، ثم قام مكانه، فوجدها ميتة لا شيء عليه، وقاله (ش)؛ لأن العاقل إنما يلتزم الفعل الممكن. قال ابن يونس: وهذا بخلاف الحالف: ليبيعن أمته، فيجدها حاملا عند ابن القاسم، وسوى بينهما سحنون في عدم الحنث، والفرق أن البيع ممكن، وإنما الشرع منعه منه بخلاف الموت، واصل ابن القاسم أن الحالف: ليفعلن لا يعذر بالإكراه، والغلبة إلا أن ينوي ذلك، وفي (الكتاب): الحالف بعتق عبده: ليضربن امرأته إلى سنة، فماتت قبل ذلك لم يحنث لموتها، وهو على بر، فإن لم يضرب أجلا منع من بيع العبد حتى يبر، فإن ماتت بعد اليمين، والحالف صحيح عتق العبد من رأس ماله، أو مريض، فمن ثلثه نظرا إلى حالة الحنث دون اليمين؛ لأن الحنث إن كان السبب، فقد وجد في حالة المرض، أو الشرط في اعتبار اليمين، واليمين هو السبب، فالآن حالة الاعتبار، وقيل: ذلك لغو. قال ابن يونس: يصدق الحالف: أنه ضرب عبده، أو امرأته بغير يمين، وإن لم تقم بينه على قضاء الحق طلق عليه بالبينة التي على أصل الحق؛ لأن العادة الإشهاد على قضاء الحق دون الضرب. قال ابن القاسم: إن صدقه الطالب، وهو من أهل الصدق حلف معه، ولا شيء عليه، وإن اتهم، فلا بد من البينة، وقال سحنون: العدل، وغيره سواء يقبل. قال مالك: إذا لم تعلم يمينه إلا بالإقرار قبل قوله بغير بينة لعدم التهمة قال ابن كنانة: لا تقبل شهادة الطالب له، ولا عليه مطلقاً للتهمة، وفي (الكتاب): من لزمه دين لرجل، أو ضمان عارية يغاب عليها، فحلف بالطلاق ثلاثا: ليودين ذك، وحلف الطالب بالطلاق ثلاثا لا يقبله، فيجبر على أخذ الدين لتعين المنة في تركه، فلا يلزم المديون إياها، ويحنث الطالب بالطلاق ثلاثا لا يقبله، ولا يجبر في أخذ قيمة العارية، ويحنث المستعير لعدم تعيين المنة بترك شيء محقق قبله، فإن ضمانها ضمان التهم، فإن أراد المستعير أنه يعطيه قبله أو لا لم يحنث كلاهما. المدرك الرابع عشر: النية العرية عن اللفظ هل ينعقد بها يمين حتى يترتب على الفعل حنث، أو بر حكى أبو الطاهر قولين، وإطلاق لفظ النية على ألسنة الأصحاب من مشكلات المذهب فقط غلط فيه كثير من الفقهاء الذين لا تحصيل لهم، وبيان ذلك: أنهم أجمعوا على أن صريح الطلاق لا يفتقر إلى نية، وقال اللخمي: في باب الإكراه على الطلاق، وأبو الوليد في صريحه، وكناياته في (المقدمات): الصحيح من المذهب أن الصريح لا بد فيه من النية، فإن كان المراد بالنية واحدا، فقد تناقض قولهم، ولزم خلاف الإجماع حتى حكوا في الطلاق بالنية قولين، والإجماع على أن العازم على طلاق زوجته لا يلزمه بعزمه الطلاق، فأين محل الخلاف، وأين محل الإجماع، ثم النية هي من باب القصود، والإرادات لا من باب العلوم، والاعتقادات، وقد قال ابن الجلاب: من اعتقد الطلاق بقلبه، ولم يلفظ به، ففي لزوم الطلاق له قولان، فقد عبر عن النية بالاعتقاد، وهو غير النية، وهذه معميات تحتاج إلى الكشف، والذي يكشف الغطاء عن ذلك أن لفظ النية عند الأصحاب مشترك بين الإرادة المخصصة، والحقائق المترددة، وهي المشترطة في العبادات، وبين الكلام النفساني، فإذا قالوا: الصريح لا يفتقر إلى نية، فهو المعنى الأول، وإذا قالوا: لا بد مع الصريح من النية، المراد الثاني بمعنى أنه لا بد أن يطلق بكلامه النفساني كما يطلق باللسان، فإن اللساني دليل عليه، والدليل مع عدم المدلول باطل، وإذا قالوا: في الطلاق بمجرد النية قولان مرادهم بالكلام النفساني، ويدل عليه استدلاهم بأنه يكون مؤمنا، وكافرا بقلبه، والإيمان، والكفر خبران نفسانيان، فالتشبيه يدل على التساوي، وسماه ابن الجلاب اعتقادا؛ لأن كل معتقد مخبر عن معتقده، فالكلام النفساني لازم للعلم، والاعتقاد، فعبر عنه به لما بينهما من الملازمة، والمراد هاهنا الكلام النفساني، وهو الحلف بالقلب دون اللسان، فهل يلغو؛ لأن الله تعالى إنما نصب سبب اللفظ، ولم يؤجل، أو يعبر نظرا لقوله تعالى: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) (المائدة: 89)، والعقد إنما هو بالقلب، فإذا تمهد هذا: تنزل أقوال الأصحاب على ما يليق به في كل موضع، والله أعلم.
|